لم يتعذّر معرفة الذات البشرية؟ وما الحلّ إزاء ذلك؟

مساء السكينة،

اقترحت عليّ الأستاذة إسراء هذا الموضوع فشَكَر الله لها.

تغريدة إسراء

لننقل اقتراحها هنا ونجيب عليه بعون الحي الذي لا يموت:

كيف تجاوب على سؤال من انت، وماذا تريد في الحياة؟

هذا طبعًا من الأسئلة الوجودية، ولئلا يزعجك هذا السؤال وغيره من الأسئلة عن الغاية وما شابه نصحت الناس مرارًا بأن يعتنقوا دينًا أو أيدولوجية وسبب نصحي بذلك هو أن من له طائفة أو دين ينتمي له لا يتعرض لمثل هذه الأسئلة فيشتغل بدل ذلك بإعمار الأرض والعمل ولا يشغل باله. والطوائف كثيرة في هذا العصر مثلًا اُنظر إلى أتباع الرائيلية من العرب الذي يظنون أن البشر من خلق الفضائيين ويصدقون ذلك أو الطائفة الأحمدية التي تظن أن مؤسسها هو المسيح المنتظر.

لم يحدث ذلك في هذه الطوائف؟

لأنه لا يتعلق بها. الدين الإسلامي -وأي دين أو أيدولوجية- له نفس التأثير لو آمنت به حقًا. مشكلة الناس -بنظري- في هذا العصر أنهم لا يؤمنون بعقائدهم كما ينبغي.وسبب عدم إيمانهم هو مسائلة الناس لدينهم في الإنترنت فقد أصبح كل شيء -عدا مصادر التمويلات في الإنترنت العربي- مكشوفًا في هذا العصر. فأصبحت الناس تسأل والملاحدة واللاأدريون يجيبون وشيوخ لا علم لهم تدفع لهم جهات مجهولة رواتبهم يردون بردود باردة فاترة سخيفة لا تقنع أحدًا فاختلط الحابل بالنابل فسبب أرقًا ومرضًا لدى الكثيرين انعكس على صحتهم العقلية والنفسية.

مرحبًا بك في عصر الميتا

نحن الآن في عصر الميتا أي “الما بعد” و”الما وراء” حيث لا تُقبل القضايا هكذا أبدًا ويوضع تحت مجهر المسائلة كلّ شيء. ومع أن هذا ليس جديدًا فالسفسطائيون مثلًا أنكروا وجود العالَم الواقعي ذاته وردّ عليهم المسلمون بأدلتهم (اُنظر الاقتباس أدناه) إلا أنه أصبح موضوعًا أكثر حدّة وانتشارًا بفعل الإنترنت.

متن العقائد النسفية
قال أهل الحقّ: حقائق الأشياء ثابتة والعِلم بها متحقق خلافًا للسُوفسطائية. وأسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل.

فيديو لأسامة السيد الأزهري من د 5.50 – التغميق مني

ورؤوس الميتا (أي تفكيك ومسائلة كل شيء بغرض العبث) كُثُرٌ من أهمهم 4:

اثنين ألمان واثنين فرنسيين وهم:

  1. كارل ماركس (الذي خرج من عباءة هيغل)
  2. فريدريك نيتشه
  3. جون بول سارتر (الذي خرج من عباءة هايدغر)
  4. ميشال فوكو

وقد لخّص الأُسْقُف روبرت بارّون (Robert Barron) في محاضرته شديدة القيمة بعنوان للأفكار عواقبٌ: الفلاسفة الذين شكّلوا طينة العام 2020 أفكار هؤلاء الأربعة وكيف ساهمت أفكارهم في تشكيل معظم ما تراه من اتجاهات سائدة الآن.

إنك إن فهمت أهمّ نقاط فلسفاتهم لم تستغرب ما يحدث في الشبكات الاجتماعية والعالم الواقعي.

للأفكار عواقبٌ: الفلاسفة الذين شكّلوا طينة العام 2020

وكما تراني هنا من عالم أزهري لأسقفٍ مسيحي كاثولوكي لا أعافُ النهل من أي مصدر معرفيّ عندي.

وما دخل هؤلاء بأسئلة تدوينة اليوم؟ للأمر علاقة شديدة ووثيقة وهو أن سؤال من أنت وماذا تريد من أهمّ ما دارت حوله أفكار هؤلاء الفلاسفة وتبناها من بعدهم الملايين ما أنتج لنا الثقافة الغربية المهيمنة الآن.

لذا أصبح البحثُ الفلسفيّ في هذا العصر ضرورة للاستقرار النفسي والعقلي ولتربية ذريتك تربية سليمة فأنت لا تود أن يُطرح عليك سؤال وجودي قوي لا ردّ لك عليه.

الإجابة عن سؤال من أنت؟

أدرك الحكماء من قديم الزمان، من فلاسفة الصين إلى اليونان وحتى حكماء المسلمين أن هناك مفتاحًا للإجابة عن سؤال “من أنت”. وسرّه أن تعرف من خالق هذا العالم. أو مصدرك. فإنك إن عرفت مصدرك عرفت من أنت.

وهذا منطقي. غير أن الإشكال هنا أنه لا أحد يعرف المصدر على حقيقته. بهذا الصدد يقول الشاذلي “وقد أبهمت علينا الأمر لنرجو ونخاف”، ويقول ابن عربي: “وما ثَمَّ إلا حيرة في حيرة”.

إذن بالتبعية معرفة الذات الإلهية أمر مستحيل ولا شك. والسبب في ذلك أن من أحاط بها علمًا كان أكبر منها، ومحال في العقل والواقع أن يكون شيء أكبر من الحق. فثَبَت أن الكلّ عاجز عن معرفة ذاته لأن كل ذات بشرية مخلوقة مستمدة من الذات الإلهية.

غير أننا نحن المسلمين لدينا مزية على الغير وهو أننا نعرف بشكل يقيني قطعي أن أكثر أحدٍ يعرف الذات الإلهية حيث لا يفوق معرفته بها مخلوق آخر ملاكًا كان أو إنسانًا أو مما لا نعلمه مما خلقه الله هو سيد المخلوقات محمد عليه الصلاة والسلام. حيث قال: “أنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له”.

إذن حلّ هذه المعضلة بالتسلسل المنطقي يكون:

  1. العالَم ثابت وحقائقه يُمكن أن يفهمها العقل خلافًا للسوفسطائية
  2. للعالم خالق إذ لو يكن له خالق لاستوى العدم والوجود والبخل والجود ولاستوى كلّ ضدان في هذا العالم؛ ونحن نعلم قطعًا علميًا (الانفجار العظيم) وعقليًا (باستحالة تسلسل العلل إلى ما لا نهاية) أنه كان عدم ثم وُجد الخلق. والعدم حالة والوجود حالة. ولا تنتقل الحالة من نفسها إلا بوجود مرجّح ينقلها فثبت وجود الحق سبحانه
  3. لا سبيل لمعرفة ذاتك دون معرفة خالقك ومصدرك وهو الحق سبحانه
  4. الذات الإلهية يستحال أن تُعرف كما هي وذلك لاستحالة وجود إلهين إذ لو تمكن مخلوق من الإحاطة بكنهها صار هو نفسه بمستوى الإله وهذا محال
  5. أعلم المخلوقات كلها بالذات الإلهية هو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم
  6. أقربُ ما يمكن أن تصله من معرفتك لذاتك ومن أنت ما تستقيه من معلومات عنها بواسطة نبيكَ محمد عليه الصلاة والسلام

وأنت من الخطوة 1 حتى 4 كلها أدركتها بعقلك لا بالنقل أو الدين. فإن وصلت للخطوة السادسة فاترك عنك النظر العقلي فلا حاجة لك به وصدّق النبي عليه الصلاة والسلام تُفلح فلا حاجة بك في هذه النقطة بالذات وفي المرحلة المتقدمة هذه إلى النظر العقلي فلن يأتي لك إلا بمزيد من الحيرة ووجع الرأس وقد أخبرنا المعصوم ألا نفكّر في الذات الإلهية فلا سبيل لمعرفتها.

وهذا هو الحقّ فإنك ستجد في السيرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وتسليم كل ما تريده في حياتك.

من هنا نستنتج:

أنك مخلوقٌ من البشر. خلقك الله تعالى، وبعث الرسل عليهم السلام لُطفًا منه ورحمة بنا، وأنت مكوّن من عنصرين طيني ترابيّ وروحي علويّ ولما اندمجا صدرت عنهما النفس (أي أن النفس هي مجرد ناتج ثانوي عن اندماج الطيني السفلي بالروحي العلوي) وهي أي النفس لا تريد إلا شرًا، وروحك تهوى كل راقٍ وجميل وتتطلع للمصدر الذي أتت منه وهو الحق تعالى والنفس تريد أن تشبع أهواء مركوبك الطيني وقد أمرك الحق بمخالفة نفسك واتباع ما تسمو له روحك. وأمرك ونهاك، فإن فعلتَ دخلت الجنة إلى ما لا نهاية بعد موتك. وموتك ليس شرًا إذ هو لقائك للحقّ تعالى.

هذا وكما أخبرتك أن هذا إيماني أنا لا إيمانك أنت. فابحث تجد وتصل. فعلى سبيل المثال آلان واتس وغلاة الصوفية وفِرق من الهندوسية يرون أنك الحقّ نفسه. لا فرق بينكما، من جهته يرى لاو تسه في كتابه الطريق والفضيلة: أن من يعرف لا يتكلم ومن يتكلم لا يعرف. وأن التاو (وهو الذات الإلهية عنده) لا يُعرف أبدَ الدهر فصَدَقَ لاو تسه عندي في هذه الحيثية.

طالع أيضًا 👇 وهو مقال مهم جدًا لأنه يجيب عن السؤال الهام: لماذا خُلقت وهو ليس قائمًا على الدين فحسب.

لننتقل الآن إلى جواب الشقّ الثاني من سؤال إسراء.

الإجابة عن سؤال: ماذا تريد في الحياة؟

حلّ المسألة الأولى (من أنت) وماذا تتبع من أيدولوجية أو دين تجيب عن سؤال من أنت. هو ما ييسّر جدًا حلّ السؤال الثاني. فمثلًا الطائفة الرائيلية هدف أتباعها واضح جدًا في الحياة وهو: أن يساهموا في بناء مبنى يسمى “سفارة ألوهيم” لاستقبال “آلهتهم” عندما يأتون من الفضاء. طبعًا لكل فرد من الجماعة مهمته في هذا المسعى.

إذن وفق ما تؤمن به يتضح جواب سؤالك عماذا تريد في الحياة. إذ لا يمكن مثلًا أن تؤمن بالدين الإسلامي وتريد مثلًا احتلال العالم مثل النازية أو الفاشيّة. ولا يمكن أن تؤمن بالأحمدية وتريد أن تتزوج من السيخ لأن ذلك لا يكون عندهم ولا عندنا نحن المسلمين.

ولإراحتك بإجابة يمكنك تخصيصها أقول أن العقل يرجح الدين الإسلامي للإجابة عن سؤال من مثل “ماذا تريد في الحياة” لأنه مهما كان ما تريده وضع لك الحقّ لك أجرًا له حتى لو كان لذّة من مطعم ولباس وملامسة النساء.

والمعيار هنا أي الجواب النهائي هو:

أيًا ما كان وضعك في الحياة فحاول قدر المستطاع أن تؤدي ما عليك من واجبات على الوجه الأمثل كما تستطيعُ.

فإن كنت أمًا أو مُعيلًا لأسرة (مثلما كان سيدنا جابر رضي الله عنه معيلًا لسبع أخوات لا يُحْسِنَّ كثيرًا من الأمور) وتزوج ثيبًا فقال له المعصوم عليه السلام: أصبت ورشدت.

قال (رسول الله صلى الله عليه وسلم): ما ترك عبد الله من الولد؟ يعني أباه قلت: سبع نسوة…وقال: هل تزوَّجتَ؟ قلت: نعم، قال: بمن؟ قلت: بفلانة بنت فلان -بأيّم كانت بالمدينة- قال: فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله كنَّ عندي نسوة خُرُق يعني أخواته، فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء فقلت: هذه أجمع لأمري. قال: أصبتَ ورشدتَ.

الأنوار في شمائل النبي المختار للحسين بن مسعود البغوي – التغميق مني

فالآن من يؤجّل الزواج لأنه يعيل أسرة أو يعتني بإخوة أو أخوات، ومن يتزوج الثيب ومن يفعل ما في صالح وضعه العامّ كله صائب رشيد. وإنما البلاء يأتي من آراء المجتمع التافهة والتي لا تغني ولا تسمن من جوع.

ولهذا وجب أن تسأل: لو كان إنسان حكيم في مكاني ماذا سيفعل؟ عندما تتردد في اتخاذ قرار. وستجد في السير الذاتية (لا سيما السيرة النبوية وسير الصحابة وبقية سير البشر الكثيرة جدًا) ما يطابق حالتك ويرشد للصواب.

أما ما تريده من أمور عامة فلن تعرفه إلا بعد أن تُجرّب لا العكس. بمعنى:

لن تعرف ما تريده إلا بعد أن تجرّب.

لذا عندما تريد شيئًا تخلق بأخلاق الله كما يقول المصطفى عليه السلام وهو أي الله تعالى فعّال لما يريد.

فإن أردت:

  • إطلاق مشروع
  • فتح مدونة
  • إطلاق بودكاست
  • إصدار كتاب
  • ترجمة كتاب أو مقال
  • إنجاب طفلٍ آخر
  • كتابة مقال
  • إعداد آيس كريم منزلي

فاشرع في ذلك متوكلًا على الحي الذي لا يموت فإن كان الشيء كبيرًا ولا بد له من مراحل وخطوات فاشرع في أول خطوة مثلًا في حالة المشروع: تسميته. فإن شرعت فيه وبعد فترة تخليت عنه فلا تبتئس فقد عرفت الآن أنك لا تريده ولم تكُ لتعرف ذلك لو لم تبدأ فيه. وهكذا نحن البشر لا نعرف أبدًا ما نريد حتى نجرّب.

فإن معرفة ما نريد تأتي بعد التجربة لا قبلها.

لذا بعد التحليّ بخاصية فعل ما تريد بوتيرة مستمرة لأن الشدة في كلمة فعّال تعني الفعل المستمر. ستقع فيما فعلته وبدأت فيه وتريده وتكتشف أن هذا ما كنت تريده.

أما من لا يفعل ولا يجرب فلن يعرف ما يريد أبدًا.

تمّ المقال بحمد الله.


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


يونس يسأل: هل عرفتَ ذاتك وما تريد؟


حقوق الصورة البارزة: Photo by Ramzi Belaidi on Unsplash

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s