لماذا انهارت السلطة المعنوية في العصر الرقمي الذي نعيشه؟

هذه التدوينة برعاية نشرة الأحد البريدية من إعداد الأستاذ علي عسيري وهي نشرة تشبه قرصات شاورمر لكنها للتسويق. اشتركوا فيها وشكرًا للدعم.

مساء الخير،

عندما يسألونك لماذا من النافع قراءة بعض كتب المثقفين والمفكّرين حتى الذين لم يشهدوا أوج الثورة الرقمية كما نشهدها الآن.

فالجواب هو: لأن استشرافهم يدلّ على أن لديهم بصيرة توقعتَ بعض ما نحن فيه الآن.

ومن هؤلاء المفكرين حنة أرندت التي فسّرت لنا لماذا المرجعية سقطت في عصرنا.

بمعنى:

لماذا يصدّق الناس تيك توكر ويتركون خبيرَ أوبئة أو من درس مجالًا لفترة سنوات؟

أو كما يظهره ببراعة هذا الرسمُ الكرتوني الساخر:

رسم وفكرة: Jason Adam Katzenstein؛ مصدر: The New Yorker
رسم وفكرة: Jason Adam Katzenstein؛ مصدر: The New Yorker

قرأت هذا العدد الماتع من نشرة زٌهَر أتكينز (Zohar Atkins) بعنوان: السياسات والاقتصادات وفلسفة المعلومات: مارتن غُرّي وحنة أرندت عن السلطة المعنوية

بداية قبل أن نذهب للمقتطفات سأستخدم كلمة المرجعية والسلطة المعنوية على أساس أنهما مترادفان وأقصد بهما الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Authority.

ومعنى Authority أو المرجعية/السلطة المعنوية بنظري: ما يُرجع إليه بشأن مجال معين. فالمفتي يمثل سلطة معنوية في الدين وخبير الأوبئة يمثل سلطة معنوية في الأوبئة، والطبيب في الصحة، والرياضي في الرياضة وهكذا.

وها هنا ينبثق السؤال: لماذا انهارت السلطات المعنوية في عصرنا. وفقدنا الثقة بالخبراء والعلماء؟

هل لأن العلماء يكذبون؟

هل لأن السلطة السياسية اشترت أصوات هؤلاء من أصحاب السلطة المعنوية؟

وفق المحلل السابق لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مارتن غُرّي ووفق المفكّرة حنة أرندت فإن انهيار السلطات المعنوية وقلة ثقة الناس بها الآن يعود لأسباب أخرى.

مارتن غُرّي يقول أنه قبل أن نذهب لماذا انهارت. نسأل من أين تنبثق السلطة المعنوية أساسًا؟ ويجيب: من ندرة مصادر المعلومات.

على سبيل المثال لو كنت الطبيب الأوحد في بلدتك في زمن لا إنترنت فيه فالراجح أن لديك سلطة معنوية شبه مطلقة بشأن الأمور الصحية والطبية. وسبب حظوّك بهذه السلطة أنك المصدر الوحيد للمعلومات في مجالك في ذلك الحيز الجغرافي.

لكن ماذا في عصر تلاشت فيه الحدود الجغرافية وأصبحت بنقرة زر تستطيعُ الوصول لعشرة آلاف طبيب في تخصص واحد؟

صدّقني ستختار من يناسب هواك ورؤيتك وليس من لديه سلطة معنوية عليك.

من جهتها، ترى حنة أرندت أن انهيار المرجعية سببه فقدان الإيمان بالتراث. وأن المرجعية في أساسها اختفت في عصرنا، وأن المرجعية في كنهها: ما هي إلا تراكم بفعل الزمن. وتجميع وتضخيم لما هو موجود وليس خلقًا من عدم. وعندما فقد البشر ثقتهم وإيمانهم بتلك التجميعات: انهارت المرجعية.

بعد أن لخّصت لكم وجهة نظر كل من حنة أرندت ومارتن غُرّي بشأن المرجعية ولمَ انهارت في عصرنا لنذهب للمقتطفات المترجمة من عدد النشرة أعلاه بتصرّف.

من أين تأتي السلطة المعنوية؟

وفق المحلل السابق لدى وكالة المخابرات المركزية مارتن غُرّي فإن أمرًا مثيرًا للفضول يقع لمصادر المعلومات عندما تكون شحيحة. إذ كلما أصبحت مصادر المعلومات نادرة أصبح ما يوجد من مصادر مرجعيةً ذات سلطة معنوية…من ذلك مثلًا صحيفة نيويورك تايمز التي ولأنها في فترة كان لديها احتكار كامل تقريبًا على الأخبار ومعلومات الأحداث الجارية، بدت صحيفة نيويورك تايمز مرجعيةً ذات سُلطة معنوية.

لكن في عصر الشبكات الاجتماعية يكتب زٌهَر أتكينز (Zohar Atkins) أن المعلومات لم تعد نادرة وانخفضت حواجز الدخول لنادي “موفّري المعلومات”…هكذا أضحت المعلومات من الوفرة لدرجة أنها أصبحت بلا قيمة تقريبًا وبدلًا عنها ما أصبح المطلوب في السوق حاليًا هو: انتباهنا…إننا نتصفّح الإنترنت الآن بحثًا عن “رؤى ووجهات نظر” بنفس الطريقة التي نطلب بها مشوار (من شركة أوبر) أو إقامة لعطلة (من شركة سفر). وسواءً أحببت ذلك أم لا. فهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن…

من جهتها؛ ستهلت حنّة مقالتها المعنونة بـ”ما السلطةُ المعنوية؟” (1958) كما يلي:

بغرض تجنّب أي لُبس في الفهم، من الحكمة أن ندرج ضمن عنوان المقالة تساؤلًا مفاده: ما كانَت عليه -وليس ما هي- السلطة المعنوية؟

بالنسبة للمفّكرة حنّة فإن من سمات الحقبة المعاصرة اختفاءُ المرجعية (السلطة المعنوية).
صحيح أن غُرّي (Gurri) يرى أن الإنترنت ساهمت في اختفاء المرجعية لكني لا أظن -يقول زهر- أن أرندت كانت ستراها سببًا في تراجع المرجعية. (هي لم تعش حتى تشهد الإنترنت) لكنها تقول أن سبب اختفاء المرجعية فقدان الإيمان بالتراث وهو الفقدان الذي بدأ -على الأقل- منذ الثورة الفرنسية، وازدادت حدّته مع أعمال ماركس، وأخيرًا تكلل بالكوارث البشرية التي شهدها القرن العشرون (مثل توأم الرُعب: النازية والشيوعية).
هكذا حُرم البشر من اليقين المعرفي، وأضحى لزامًا أن نحدّ من تأثير النُظم الفكرية اليقينية مثل الأديان لئلا تصير نُظم حُكْم شمولية استبدادية.
تربط أرندت معنى المرجعية authority بكلمة author التي تزعم أنها مرتبطة بالمفهوم الروماني للتضخيم (augmentation) حيث أن المرجع (المؤلف) لا يخلق من عدم بل يضخّم ما هو موجود ويزيد عليه.
وقد كان التراث بنظرها ذا مرجعية لأنه وفي آن معًا: تراكم مما سبق ودعوة للزيادة والتضخيم. والنقطة الحاسمة هنا أن التراث كان ذا مرجعية ليس لأنه صحيح وصادق بل بسبب الزمن وعمره وطول بقائه الذي منحه جلالة وهيبة.
تختلف أرندت عن غُرّي في أسباب تراجع المرجعية (السلطة المعنوية). بنظر غُرّي فإن أحد الأسباب يتمثل في أن الماضي يتسم بأنه نادر من حيث العناصر التي وصلتنا منه. فالأعمال التي وصلت لنا ذات تاريخ ولا يمكن تجريدها من عمرها وأي شيء وصل حتى هذا العصر سيحتكر -نوعًا ما- مكانته في حاضرنا…


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


يونس يسأل: برأيك لماذا قلّت الثقة بأصحاب السلطة المعنوية في عصرنا؟


حقوق الصورة البارزة: Photo by Thomas Kelley on Unsplash

رأي واحد حول “لماذا انهارت السلطة المعنوية في العصر الرقمي الذي نعيشه؟

  1. رأيي أنها خفت ولم تنهر .. وإنما تنوعت.. وجود الإنترنت وشيوع المعلومات من مصادر عديدة ساهم بالتأكيد.. ولكن أحيانا تكون هناك وثوقية عالية جدا لدى أصحاب المجتمعات (التقنية المغلقة) وأصحاب نظريات المؤامرة.. وبل حتى لمؤثرين جدد..

    قلت المؤثوقية الساذجة بسبب تعدد المصادر ولكنها تحتاج إلى فلترة وتفكير ناقد صحيح.. لكي تكون في صالحنا..

    Liked by 1 person

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s