مهندسُ البرمجيات الفرنسي بلوم يقول أن الويب المعاصر ينقسم وبالمقال ينصحك لأي شقٍّ منه تنحاز

مقدمة

أتابع بحمد الله نشرات وزوايا من الويب لا يعرفها الكثير من الناس، زوايا مُعتمة إعلاميًا شديدة النور معرفيًا ومليئة بالنفع والفائدة وترضي فضول المولعين بتغذية خلاياهم الرمادية.

ومن هذه الزوايا نشرةُ إريك بايلي (Eric Bailey) القائمة على أيسر أداة لنشر النشرات وهي أداة بتن داون (Buttondown) وهي من تطوير جاستين إم دوك وقد ترجمتُ له من قبل مقالًا رائعًا عنوانه رفاهية النجاح غير النمطيّ فعليك به، ونشرة هاكر نيوز اليومية (Hacker News Daily) التي تأتيك بما يشيع في موقع هاكر نيوز والتي إن أدمنت مطالعتها زاد ذكائك وحدة فطنتك كثيرًا.

ومن نشرة إريك بايلي وجدت مقالًا عنوانه انشقاق الويب للمهندس والكاتب الفرنسيّ بلوم، وقد راسلته عبر البريد وطلبت إذنه بترجمة المقال -وقد وافق مشكورًا- وفعلت ذلك إذ قلتُ في نفسي:

  1. مرّ وقت طويل لم أترجم فيه قطعة من المحتوى أحبّها و
  2. لا بد أن يقرأ هذا المقال كلّ مطور ويب عربي ومبرمج كي يساهم في جعل الويب أيسر مرة أخرى ونقلل من أمراض الرأسمالية التي تغلغلت في أوصال الويب حتى خنقته.

دون إطالة إليكم مقال بلوم.

انشقاق الويب

ثمّة هُوَّةٌ فاصلة آخذة في الكِبر تُقسِّم الويب المعاصر.

ففي جانب من هذه الهوّة: لدينا الويب التجاريّ، المُلغَّم بالشركات الاحتكارية، وهو معشوقُ المؤسسات الإعلامية.

وهذا الويب ليس له من غاية إلا غاية وحيدة هي أن يجعلنا ننقرُ.

يحسب هذا الويب النقرات، ويغيّر نفسه كي ينقر مستخدموه أكثر، وغرضه: توليد النقرات.

يجمع هذا النوع من الويب أقصى قدرٍ ممكن من المعلومات عنّا ويرسل لنا رسائل لا نريدها كل ثانية من ثواني حياتنا ويفعل ذلك بواسطة الإعلانات والإشعارات الصوتية والتنبيهات والاهتزازات ووميض الدايودات المُضيئة (LEDs) وموسيقى الخلفية والعناوين المُتَأَلِّقَة البرّاقة.

وهذا الويب شبكةٌ يمكن اختزال فحواه ومضمونه في “حُكم البلهاء والحمقى” ضمن عالمٍ يشبه ما في فلم بلايد رانر (Blade Runner): أي أنها ليست إلا حالة مأساوية (ديستوبيا) سيبرانية لا لُبس فيها.

ثم هناك ويب المتمرّسين في التقنية.

أولئك الذين يثبّتون مانعات الإعلانات أو يستخدمون متصفحات بديلة. أولئك الذين يجرّبون شبكات بديلة مثل ماستودون (Mastodon) أو، لا سمح الله!، غيميني (Gemini). أولئك الذي يسخرون من الويب المعاصر بتطوير صفحات ويب حقيقية قائمة على HTML محض خالية كليًا من جافا سكريبت.

وإني لأرى الهوّة تتسع شيئًا فشيئًا ما بين هذين القطبين المتطرفين. ولزامٌ عليك الآن أيها القارئ أن تختار إلى من ستنحازُ.

ففي أثناء تصفح ما يعرفه الناس بأنه “الويب العادي”، أصبح الأمر شيئًا فشيئًا يتطلب أن تعطّل -على الأقل- جزءًا من مُعطّلات المزايا المُزعجة لديك (مثل مانعات الإعلانات ومانعات المُتتبعات) لكي تصل للمحتوى.

عن نفسي وفي معظم الأحيان لم أعد أزعج نفسي جملة واحدة.

ففي حال نقرتُ على رابط ولم يفتح أو لا يعمل كما ينبغي. أدرك أن الراجح في سبب وقوع ذلك كبحي لبعض أكواد جافا سكريبت (ضرورية لهم) مُقدمة من طرفٍ ثالث.

ولكني لا ألقي بالًا للأمر، وأفقد اهتمامي بالرابط. إذ في متناولي الكثير جدًا مما ينتظر أن أقرأه على أية حال. وعدم عمل الرابط شيء حَسَنٌ إذ يفسح لي وقتًا لفعل شيءٍ آخر.

في الوقت الحالي أستخدم kagi.com بصفته محرّك البحث الأساسي لديّ عند البحث على الويب. ومحرّك البحث kagi.com يأتي بميزة حسنة وهي ميزة “العدسات غير التجارية” (non-commercial lens)، (وهو أمر ساخر لحدٍ ما نظرًا لأن محرك كاغي نفسه محرك بحث تجاريّ).

ومبدأ عمل هذه الميزة عند تفعيلها أنها ستحاول تقليل أولوية ظهور المحتوى التجاريّ المُغرق في التجارية. أستطيع بالمحرك أيضًا أن أقلل أولوية ما أختاره وأعيّنه يدويًا من أسماء النطاقات (domains). مثل facebook.com أو linkedin.com.

فإذا ما كنتَ تنشر محتواك في تلك المنصات فالراجح أني لن أقرأ ما تكتبه. هذا وإني لمّا أشرعْ بَعْدُ في الحديث عن المرّات القليلة التي استخدمت فيها marginalia.nu.

وقد لاحظتُ حدوث شيءٍ غريب لا يقتصر على أن جزءًا من الويب يختفي من أمام ناظريّ فحسب. فنظرًا لأني حظرت كليًا تحليلات غوغل وكل اسم نطاق تابع لفيسبوك وكل تحليلات بمُكنتي حظرها: أدركت أني أنا نفسي أختفي كذلك بالنسبة لهم. فها أنا لا أراهم، لكنهم هم كذلك لا يرونني!

فَكِّر في الأمر! والآن كلُّ ما يدور من “شهادات ماجستير إدارة الأعمال في التقنية والمصممين والمسوّقين على الشابكة” بُني وطُوِِّر بناء على تحليلات تصف الناس الذين لا يحظرون التحليلات والمُتتبِّعات (وتلك البوتات التي تتظاهر أنها أولئك الناس). يومًا إثرَ آخر أشعرُ أنيّ أكثرُ انفصالًا عن ذلك الجزء من الويب.

عندما اضطرُّ اضطرارًا للتعامل مع مثل هذه المواقع من ذلك الجزء من الويب أجد أن الأمر ساحقٌ للأعصاب لدرجة أني ألجأ غالبًا لـ…إجراء مُكالمة هاتفية أو إرسال رسالة إلكترونية عبر البريد.

وهكذا حدث أني وقّعت عقد هاتفي المحمول بتبادل رسائل إلكترونية مع شخص حقيقيّ لأن عملية التسجيل كانت معطوبة لا تعمل. وهكذا أيضًا أتصل هاتفيًا لحجز غرف الفنادق عندما لا تكون عملية الحجز عبر الإنترنت يسيرة ومُباشرة من على موقعهم أو إن كان إنشاء حساب لديهم إلزاميّ لحجز غرفة.

عن نفسي أكره إجراء المكالمات الهاتفية لكن إجرائها يحفظ لي الكثير من الوقت ويجنّبني التوتّر. الأمر الآخر أني أتمشى للمتاجر أو أركب الدراجة وأذهب لهم بدلًا من الطلب عبر الإنترنت. هذا ما يتيح لي أن أتلقى النصائح بشأن ما أشتريه وأستبدل المشتريات المعيبة دون اضطرار للتعامل مع مكتب البريد أو شركة الشحن.

ورغم انفصالي عمّا يسميه البعض “الشبكة” أي الويب العادي كما يعرفه الناس، أتلقى الكثيرَ جدًا من رسائل البريد التي تُعلّق على محتوى مقالاتي في مدونتي. ومن ناحية أخرى نادرًا ما أحظى بمحادثات إنترنتية مثيرة للاهتمام مثلما أحظى بها عند استخدام ماستودون (Mastodon) إذ أحظى هناك بمحادثات كثيرة ومثيرة للاهتمام في نفس الوقت.

وبين متناول يدي كل يوم العشرات من قطع المحتوى بالغة الأهمية ثاقبة البصيرة التي تنتظر أن أقرأها، وهي تقبع في قائمتي من الآر إس إس RSS وعلى غيميني (Gemini)، وفي موقع هاكر نيوز (Hacker News)، وعلى ماستودون (Mastodon).

الأمر المثير للعجب أن الكثير من قطع المحتوى تلك تحتضنها مدونات تقليلية التصميم (minimalist) ويسيرة الاستخدام للغاية. المُضحك أنه حين يرى أناس غير تقنيون مدونتي أو المدونات التي أقرأها، يخبرونني بعفوية كم هي جميلة ويسيرة الاستخدام!

يبدو الأمر في جزء منه كما لو أن كل تلك الطبقات من جافاسكريبت وأكواد سي إس إس (css) المبهرجة تُستخدم لجعل تجربة الاستخدام أردأ، بل وتستخدم ضدهم. تُستخدم ضدّنا نحن البشر. يبدو الأمر في جزء آخر منه كما لو أننا نحن المستخدمون الحقيقيون لا نلقي بالًا أبدًا لما يدعى “التصاميم الأنيقة” وكل ما أردناه شيئ بسيط يسير الاستخدام.

يبدو الأمر بالنسبة لي الآن أن الجميع يختارون معسكرهم الذي سينحازون إليه. لا مناص من الاختيار إذ لا تستطيع أن تبقى في الوسط. ليس بعد الآن.

  • فإما أن تكرّس كل ما لديك من قوة حوسبية (CPU) في أجهزتك لتشغيل متعقبات جافاسكريبت تتعقبك أنت وتصرفاتك وإما أن تُطلِّق الشركات الكبرى الاحتكارية. و
  • إما أن يُدفَع لك لكي تبني لافتات إعلانية ضخمة فوق إطار عمل (إطار عمل آخر فوق ما لدينا بالفعل من إطارات عمل برمجية) أو
    • تطوّر صفحات HTML يدويًا وبعناية وحرص مُحبٍّ.

ولعلّ الويب لا يحتضر. لعل ما يحدث الآن انشقاقٌ حيث ينقسم الويب إلى شقّين.

هل قَرَعَ سمعك مصطلح “الويب المُظلم” الشهير، والذي يعشق الصحفيون الكتابة عنه؟ (عندما طلبت من أحد الصحفيين أن يخبرني ذات مرة بما يعنيه “الويب المظلم” له، أجابني بأنه تلك “المواقع التي لا يُوصل لها بسهولة انطلاقًا من بحث على غوغل”).

طيّب، أشعر أحيانًا أني جزء من ذلك “الويب المظلم” وفق تعريف ذلك الصحفي. ليس لشراء المخدرات أو استئجار قتلة مأجورين لا سمح الله! كلا! بل ما أقصده هو مكان أحظى فيه بنقاشات دون أن يُتجسس عليّ أو تقاطعني بين الفينة والأخرى إعلانات لا أرغبها.

لكنّ شعوري بأني دخيلٌ يقلّ يومًا إثر آخر.

لستُ الدخيلَ هنا. بل أولئك الناس الذين يعيشون من أجل الإعلانات ويقتاتون عليها، أولئك هم الدخلاء. أولئك هم الذين يدمّرون كل شيء تلمسه أيديهم بما في ذلك كوكبنا. أولئك هم المعاتيه المختلّون وإنّي لم أعد أرغب بوجودهم في حياتي بعد الآن.

هل سننفصل عن أولئك المهووسين بالنقرات ومعدّلات التحويل وقُمُع التسويق غرباء الأطوار؟ “سكة السلامة” كما تقول آمال ماهر! إن اخترتهم أنت: فحظًا موفقًا في حياتك معهم.

لكن إن رغبت في مغادرتهم والانفصال عنهم، فالآن وقت مناسب للعودة للويب البسيط. مرحبًا بك مرة أخرى على متن طائرة الويب اليسير!


عن الكاتب بلوم (Ploum)

الكاتب بلوم (Ploum) وكتبه . لشراء كتبه أنقر صفحة كتب بلوم
الكاتب بلوم (Ploum) وكتبه. لشراء كتبه أنقر صفحة كتب بلوم

بلوم، كاتب يراوح قضاء وقته ما بين النقر على لوحة مفاتيح بيبو (bépo)، لضخ المحتوى في مدونته (التي أوصي بها)، والآلات الكاتبة الميكانيكية العتيقة التي يتخيل مستقبل البشر فيها بكتابة قصصٍ وروايات خيال علمي بواسطتها، تجد كتب بلوم الروائية الخيالية في كل متجر كتب فرنسيّ جيدٍ. (أوصي بشراء كتب بلوم هنا) خارج لوحات المفاتيح: يمكنك أن تعثر على بلوم تحت الماء أو فوق دراجة هوائية.

يُعبّر بلوم عن نفسه بقوله: بصفتي ليونيل دريكو (Lionel Dricot) -وهو اسمه الحقيقي- أتظاهر أني أرقى لمستوى تدريس حرية البرمجيات في المدرسة المتعددة الفنون والعلوم (بوليتكنيك) في لوفان (École Polytechnique de Louvain).

بصفتي كاتبًا ومهندس برمجيات، أحبّ استكشاف كيف تؤثر التقانة على المجتمع.

أدعوك للاشتراك في نشرة بلوم البريدية أو متابعة محتواه عبر RSS. يحترم بلوم الخصوصية ولن يشارك أبدًا بريدك الإلكتروني.

في حال كنت تجيد الفرنسية (أو بصدد تعلمها وتريد ما تقرأه كي تحسّن نفسك فيها) أدعوك لدعم بلوم بشراء كتبه ومشاركتها وقرائتها. و/أو الاشتراك بنشرته البريدية المكتوبة بالفرنسية أو متابعة محتواه الفرنسي بـ RSS. يطوّر بلوم كذلك بعض البرمجيات الحرّة. يمكنك تفقّدها من هذا الرابط (مجانية كليًا).


إن النصّ الأصلي والترجمة تحت رخصة: نَسب المُصنَّف – الترخيص بالمثل 2.0 عام (CC BY-SA 2.0).

تُرجم النص بإذن من كاتبه الأصليّ: Ploum، ليونيل دريكو (Lionel Dricot).

رابط المقال الأصلي: Splitting the Web نُشر بتاريخ 01 أغسطس / أوت 2023.


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


حقوق الصورة البارزة: Photo by Christopher Gower on Unsplash

3 رأي حول “مهندسُ البرمجيات الفرنسي بلوم يقول أن الويب المعاصر ينقسم وبالمقال ينصحك لأي شقٍّ منه تنحاز

  1. السلام عليكم
    أتفق معك في أن الويب ينشق لشطرين الآن وأنا بصراحة مازلت في الوسط إذ أحاول استعمال المواقع التي لا تتجسس علي، وألغيت مواقع التجسس الصريح مثل فيسبوك وتويتر، ولكن عندما لا يفتح رابط بسبب موانع الإعلانات والتعقب التي لدي فإنني أحياناً أنسى أمره، وأحيانا أفتحه من متصفح آخر.
    ولكني أحاول جاهداً أن أكون من المعسكر البسيط غير التجسسي 🙂
    بالنسبة للكاتب الفرنسي… أنا لا أساهم في دعم الفرنسيس بأي شكل من الأشكال، ولو أن الموضوع مثير للاهتمام، ولولا أنه فرنسي لكنت قرأت له.

    إعجاب

    1. السلام عليكم

      ربما لايجب أن ندعم الفرنسين وكل دول الاتحاد والعدوان لكن الاستفادة منهم يعتبر نوع من أنواع التسلح الفكري من جهه.

      إعجاب

شاركني أفكارك!