لديك مشروع ثقافيّ رياديّ؟ يعقوب صرّوف نموذجٌ جدير بأن يُحتذى

على ضوء إعلان المملكة العربية السعودية عن إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية من المناسب هذه الفترة الغوص في موضوع يتعلق بمجامع اللغة العربية، وبالضبط مَجمَع اللغة العربية بدمشق، الذي يُعَدُّ من أعرق وأقدمِ المجمعات العلمية بالعالم العربي، إذ تأسَّس في عهد حكومة الملك فيصل سنة 1919م في سوريا.

في عدد كانون الثاني وشباط سنة 1928 من مجلة المجمع نقرأ التقرير الرابع من أعمال المجمع العلمي العربي من سنة 1925 لـ1927 كتبه محمد كرد علي لرئيس دولة سورية (أحمد نامي).. وهو تقرير مهم يشكو فيه محمد كرد من عدة مشاكل تعترض سير عمل المجمع على أكمل وجه أهمها:

  1. استقلالية المجمع الأدبية والمالية والإدارية
  2. مصادر الدخل شحيحة (تمويل المجمع لا يفي بنشاطاته)

ومع أن ذات العدد يحوي قائمة (سماها جريدة) بالمتبرعين للمجمع بالمال والمخطوطات والمقتنيات الثمينة وهي قائمة لا بأس بطولها إلا أنها لم تكفي كما يظهر، لذلك يبدو أن “نموذج العمل التجاري” (وهو المصطلح الحديث لما يسمى كيفية تحقيق الإيرادات) لمؤسسات نتاجها الأساسي “فكر ومعرفة” مثل المجمع لا زالت منذ ذاك الوقت مُعوَّقة أو هكذا نظن.. لأن نفس العدد أيضًا (وهو ممتاز أدعو كل من له صلة بإدارة مجمع الملك سلمان أو وزارة الثقافة السعودية أن يطالعه لأنه سيوفر عليه الكثير من الأخطاء الإدارية وعام 1928 الذي صدر فيه العدد غير ذي صلة لأن المعرفة التي فيه لا تتقادم لا سيما ونحن لا نسير بسرعة على أية حال) فيه قصة عن مؤسسة تنتج المعرفة لكن صاحبهما كما يقول محمد كرد “أثريا وارتاشا (أي أصبحا أغنياء) على صورة لم تسبق لغيرهما من أرباب الأقلام في بلاد العرب”. ص 58 من العدد المذكور أعلاه. وهذا ما سنتناول في هذه التدوينة: الدروس المستفادة من تجربة يعقوب صروف في النجاح بمجلته المقتطف ماديًا ومعنويًا.


في هذه المدونة اقتبست من محمد كرد من قبل بخصوص موضوع هام هو العمل الحر ومحمد كرد علي فطالعه.


في المملكة هناك الكثير من المشاريع الثقافية (لا داعي لذكر الأسماء) لكن معظمها لو ترفع عنه الدعم الحكومي لن يلبث شهرًا واحدًا في الوجود وهو أمر لا يتعلق بالمملكة فقط بل بسائر الوطن العربي، لكن مع وزارة الثقافة الجديدة في المملكة، ومجمع الملك سلمان والخطة الطموحة للوزارة التي من أهدافها الرئيسية: الثقافة من أجل النمو الاقتصادي، وضع تحت هذا الهدف المحوري والموضوع في الرتبة الثانية عشرة خطوط أو أكثر؛ وخطوتها الأخيرة في إطلاق قاعدة البيانات الثقافية نستبشر خيرًا في حال ما دُمجت من الأول وعن سبق إصرار وعمد “نماذج العمل التجاري” وريادة الأعمال في لبّ النشاط الثقافي أيًا كان ذلك النشاط: مسرحًا أو فنا تشكيليًا أو كتابة أو نشر أو خلاف ذلك.

دعنا نقتبس تجربة يعقوب الثقافية والريادية ونأخذ منها دروسًا علّها تفيد (لأنه يمكن بالفعل تكرارها في عصر الإنترنت بقالب غوست جيد واستضافة كافية ودعم مالي أوليّ وإرادة حقيقية): الدروس مقتبسة من مقال محمد كرد التأبيني للعلامة يعقوب صرّوف، ص 57 فما فوق من نفس العدد المذكور أعلاه.

وفي خلال التدريس بدا له (أي يعقوب) مع تِربه الدكتور فارس نمر أن ينشئ مجلة تبحث في العلوم المادية فاستشارا أستاذهما العلامة الدكتور كرنيليوس فانديك الاميركاني فشجعهما على عملهما وسمى مجلتهما (المقتطف) وبدأ يؤازر فيهما وينظر فيما يترجمان ويؤلفان.

كما ترون من الضروري وجود مرشد (منتور) يشرف على مشروعك الريادي الثقافي. وهو في حالتنا هذه كرنيليوس فانديك.

انقطع الدكتور صروف -الدكتور لقب ناله في الفلسفة من احدى جامعات أميركا- لإنشاء المقتطف، واختص زميله الدكتور نمر بإنشاء المقطم وكان الدكتور صروف ينظر على الأكثر في المسودة الأخيرة من المقطم، وكثيرًا ما كان يحذف منه أشياء تمس عواطف المصريين.

وكان المُترجَم له (أي يعقوب) ورصيفه الدكتور نمر مثال الشريكين المتماسكين الصدوقين، فأثريا وارتاشا على صورة لم تسبق لغيرهما من أرباب الأقلام في بلاد العرب.

نستنتج من هذه الفقرة الكثير منه أن:
1. اختيار الشريك المناسب للمشروع مهم جدًا وهو ما أكد عليه المصمم العربي حسام عبد في تجربته الريادية ووضعه بمستوى اختيار زوجة.
2. تفرّغ لمشروعك تمامًا إن كان ذلك في وسعك. ضع للتفرغ لمشروعك أولوية في حياتك.
3. إيكال المهام كل حسب مهاراته وقدراته يجعل سير العمل حسنًا ومستدامًا. (مثلًا يعقوب يدير المقتطف لكنه يراجع مسودة المقطم)
4. مراعاة البيئة التي ينشط فيها عملك الريادي الثقافي ضروريّ.

لكن ما هو مشروع يعقوب وصديقه أولًا؟

ما زال المقتطف بفضل منشئه يدأب على السير في الخطة التي رسمت له وجلّ اعتماده في مادته على المصادر الإنكليزية والأميركية. ومادته البحث في تقريب العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والاقتصادية والزراعية من أذهان الجمهور. وقد نجح في هذا المعنى، وأثر في أفكار قرائه تأثيرًا حسنًا، فكان أداة صالحة لنزع غشاوة الجهل المخيم على العقول. وكثير ممن لم يحظهم الحظ بدراسة هذه العلوم على الأصول في المدارس تلقوها من طريق المقتطف فكان مدرسته وأستاذه من غير نكير.

نستنتج من هذا:

  1. أن المشروع الثقافي الريادي المتمثل في مجلة المقتطف كان له خطة وبدأب سار عليها. وهنا نقطتان مهمتان: ضرورة وجود خطة، وضرورة الاستمرارية.
  2. تبسيط العلوم أو ما سماه محمد كرد بتقريب العلوم أداة فعّالة جدًا في الرقي بالوعي الجمعي. وهي فعّالة أكثر لما يقدم المحتوى المبسط باللغة الأم للجمهور المستهدف.

قبل أن أنسى ونكمل الدروس المستفادة، نشير إلى أن مؤسس صخر الأستاذ محمد الشارخ أدى ما عليه وزيادة تجاه الأمة بإتاحة مجلة المقتطف ذاتها مجانًا عبر موقعه الإلكتروني الأرشيف للمجلات الأدبية والثقافية، ونواصل:

وقد رُزق (الدكتور صروف) بيانًا لا تكلف فيه، ورشاقة في الأداء وإبلاغ المعنى إلى القارئ يُفاخر بها، وقدرة على النقل والاحتذاء قلّ أن داناه فيها أحد بموضوعه، يقرأ المقالة الطويلة لعالم من علماء أمريكا أو إنكلترا فلا يلبث أن يلخصها في صفحات قليلة، ويزينها بما يشرحها ويحبب إلى الناس مطالعتها، وكان حسن الاختيار فيما ينقل ويحتذي ويؤلف، وكان التعريب في مجلته أكثر من التأليف..ومن قرأ المقتطف وأدمن قراءتها فكأنما يقرأ ملخص آراء العلماء من الإنكليز السكسونيين في هذه العلوم.

قبل أن نقول ما الدرس المستفاد لا بد أن نعرف أن الدكتور صروف ووفق نفس المقال درّس لعشر سنوات، لذلك الدرس المستفاد هو على شكل نقاط:

  1. استفد من خبراتك المهنية السابقة، ففي حالة الدكتور صروف ولأن المدرس مضطر للشرح والتبسيط والتفهيم أصبحت عنده ملَكة في حين منافسوه سيجدون مشقة عظمى في اللحاق به.
  2. لا تخشى من أن تطلق العنان لقدراتك ومواهبك التي حباك الله بها. فلا تقمعها.

وقد حاول غير واحد من أرباب الأقلام في مصر والشام أن ينسج على منوالها فأخفق لأن دراسته الأصلية كانت غير دراسة الدكتور صروف الذي تخرج على يد أستاذ حكيم وعلم مبادئ هذه العلوم قبل أن يؤلف فيها، وسار على سنة الترقي في موضوعاته، تزيد كل سنة مادته وتزيد معها معارف قرائه.

نخلص من هذه الفقرة بما يلي:

  1. لا تخشى المنافسة لكن اعرف نقاط قوتك وتميزك أي ما هي ميزتك التنافسية كما يقال في هذا العصر. وهي هنا في حالة يعقوب صروف (مُرشد ممتاز وسنوات في الدراسة وموهبة في التبسيط إلخ)
  2. اتبع منهج النمو التدريجي. ارتقِ شيئًا فشيئًا في عملك.
  3. خلال نموك ابنِ حولك مجتمعًا من الناس والمتابعين الأوفياء (وهو ما نجحت المجلة بقوة في خلقه)

ومن مزج خدمة العلم بخدمة نفسه في الماديات فاتخذ العلم تجارة والتجارة بابًا للعلم قد ينجح في الأعم من حالاته. ومن أجل هذا اضطر المقتطف في الربع الأخير من عمره أن يجاري بعض المجلات في نشر الأبحاث الأدبية فأجاد في بعض رواياته المترجمة ولم يُجِد في المختارات الأدبية، فجاء من المقتطف صحيفة عامة تبحث في أمور كثيرة يصح أن يقتنيها أهل كل جيل وقبيل، ولا مسحة عليها من صحف الاختصاصيين من الغربيين، تلك الصحف التي تنصرف إلى علم أو عدة علوم لا تتعداها، فتطيل فيها وتتوسع ما شاءت وشاء غرضها. وللمقتطف عذر في ذلك ما دام أهل الأخصاء (أي الأخصائيون) في الشرق لا يعيشون من أقلامهم، وما عم العلم بيننا حتى يخص.

من هذه الفقرة نخلص إلى:

  1. دون مصدر دخل (طريقة لتحقيق الإيرادات أو ما سماها محمد كرد بالماديات) لن يستمر مشروعك الثقافي الريادي. فنموذج العمل التجاري ليس ترفًا ولا عنصرًا زائدًا بل هو من ركائز النجاح. ووجوده يرفع حظوظ المشروع في الديمومة والاستمرار والاستدامة.
  2. إجراء تنازلات محسوبة ودقيقة ضمن منتجك (المعرفي أو الواقعي) لا تؤثر في القيمة التي تقدمها ما دامت هذه التنازلات (في حالة المقتطف اضطراره نوعًا ما لتلبية ما يروق الجمهور الذي بحقّ كان يدفع المال للحصول على المجلة قبل أن يوجد باتريون أو منصات دعم المعجبين التي نراها الآن) تُجرى عن وعي وبغرض استدامة مشروعك.
  3. جعل نموذج عملك التجاري (كيفية تحقيق الإيرادات) متوافقا مع البيئة الاقتصادية التي ينشط فيها مشروعك مهم. هنا ندرك لماذا لم تتخصص المقتطف وبقيت عامة لأن التخصص لم يكن له سوق وقتئذ.

مع أن عنوان التدوينة هو لديك مشروع ثقافيّ رياديّ؟ يعقوب صرّوف نموذجٌ جدير بأن يُحتذى إلا أن العنوان الأصلي الذي كتبته لأول مرة كان: نحن في حاجة ليعقوب صرّوف جديد لكن هذه المرة دون أي صلة له بالاحتلال البريطاني ذلك أننا نقرأ في المقال التأبيني:

ثم رأيا (أي يعقوب وفارس نمر) الانتقال إلى القطر المصري وأنشآ في القاهرة سنة 1888 جريدة سياسية يومية سمياها المقطم تناصر الاحتلال الإنكليزي، وظلا على إصدار المقتطف والمقطم إلى اليوم

تعليقي: طبعا اليوم المقصود هناك أحد أيام عام 1928 ونحن الآن في عام الربّ 2020 – أفاض الله علينا عونه وتوفيقه

ومحمد كرد علي لم يتوقف ولم يعلق على هذه الإشارة الخطيرة. وكأني به كما يصورون في عالم الميمات هذه الأيام:

محمد علي كرد وهو يتجاهل صلة يعقوب صروف بالاحتلال البريطاني

مع ذلك ولأن الاحتلال مضى، ولكلٍ ما عمل ونوى، تبقى الدروس المستفادة من تجربة يعقوب صروف في إدارة مجلة صنعت وعي الكثيرين صالحةً للاستخدام والاحتذاء حتى في وقتنا الحاليّ. فلنستفد منها والله الموفق.


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


حقوق الصورة البارزة: Photo by Brandable Box on Unsplash

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s