نواجه نحن البشر وفرة زائدة عن الحدّ من المحتوى. حيث تشهد كل دقيقة ما متوسطه 550 مستخدمًا جديدًا لشبكات التواصل الاجتماعي، ويشهد محرك البحث غوغل 40,000 عبارة بحث كل ثانية. في هذا السياق، ضُغط زر الإعجاب التابع لفيسبوك 13 تريليون مرة، وكل يوم جديد يبزغ فجره يشهد 682 مليون تغريدة. يبدو والحال كذلك أن كلّ مرة تطرف فيها عيوننا، نجد أن حلقة جديدة من إحدى المدونات الصوتية (البودكاست) نُشرت أو لدينا تدوينة أخرى تنتظر قرائتها أو توصية بكتاب جيد لشرائه من أمازون. ما أود قوله دون إطالة هنا هو أنه أصبح من الصعب بل ويزداد صعوبة بمرور كل يوم أن نفرز ما ينفع من كمٍ كبير من الغثاء.
في هذا السياق، كتب أندرو تشن، المندوب العام لدى أنديرسين هورويتز العامَ الماضي ما يلي:
إننا نعيش في وقت محوريٍّ في تاريخ وَسائلِ الاتصالِ العامَّة؛ وهو ما أعتقد أنه العصر الذهبي للإعلام الجديد.
في ظل تزايد عدد صنّاع المحتوى، وتكاثر قطع المحتوى، واستطالة لوائح الاختيارات بشكل غير مسبوق، أصبح المستهلكون الآن في حالة من العجز عن فرز النافع من الغثاء. بهذا الصدد لم يعد هناك أي ندرة في المحتوى. بل ما أصبح نادرًا هو “الانتباه”. ذلك أنه في ظل وقتٍ من المستحيل فيه استيعاب كل شيء يأتي به هذا الطوفان من المعلومات، من المعقول أن أفضل ما لدينا هو الاختيار وانتقاء أقرب الأمور إلى اهتماماتنا، أو -وهذا الأفضل-: العثور على أشخاص يقومون نيابة عنّا بهذه العملية من الانتقاء. ولعل ماريو غابرييل صاحب النشرة البريدية ذا جينيراليست The Generalist عبّر عن ذلك بصورة أفضل قائلًا:
لقد صرنا جميعًا نستهلك كمًا أكبر من المواد الإعلامية، كما أن هناك رغبة متزايدة في الدفع مقابل المحتوى عالي الجودة. حريّ بالذكر أن العام الماضي شهد أيضًا تزايدًا مفاجئًا في عدد الكتّاب والمحللين الجيدين في فضاء الإنترنت؛ وأعتقد أننا على أعتاب طفرة في أعداد صنّاع المحتوى.
وفي ظل نمو كمية المحتوى، نما أيضًا سوق مُنتقي المحتوى (curators) الموثوقون.
وإحدى الأمثلة المميزة على ذلك باقة المحتوى المقدمة بالشراكة ما بين ناثان باشيز ودان شيبر والمسماة “إيفريثنغ“. حيث قرر الثنائي شهرَ أبريل عرض باقة مشتركة تضم كلا النشرتين البريديتين (اللاتي كانا من قبل يعرضانها بشكل منفرد كل على حدة)، ولم يتوقعوا من هذه التجربة إلا بضعة مشتركين جدد. لكن ما حدث هو أن الباقة المشتركة نمت من 600 إلى 1,000 منخرط في الاشتراك المدفوع في غضون الشهر الأول من الإطلاق فحسب. في ظل كل هذه الضجة بشأن “التفكيك” أي أن تعمد لباقة موحدة من الخدمات فتفككها وتعرض كل خدمة على حدة، (منها تفكيك خدمات الجامعة، وحزمة غوغل المكتبية، وموقع ريديت، وصناديق رؤوس الأموال المُجازفة) أثبتت تجربة الضمّ التي قام بها ناثان ودان -عن عمد- نجاحها المذهل.
صحيح أن مثال باقة نشرات “إيفريثنغ” البريدية هي مثالي المفضل، لكنها ليست المثال الوحيد على أية حال. فمن الأمثلة الأخرى موقع تشانلز ستاك (Channels Stack) وهو موقع ينتقي المحتوى التعليمي من اليوتيوب، بحيث يُنظم مئات القنوات ضمن فئات محددة. من الأمثلة الأخرى أيضًا نشرة “ذا براوسر” البريدية، وهي نشرة بريدية يومية يديرها رجل يقرأ 1,000 مقال يوميًا، ثم يختار أفضل 5 منها ويرسلها للمشتركين مع ملخص صغير عن كل مقال. في غالب الأحيان، لا تقبع هذه المقالات وراء جدران دفع (paywall)، لكن المشتركين في نشرة “ذا براوسر” يدفعون المال ليحصلوا على قائمة مُنتقاة بعناية من المقالات حتى لو كانت هذه المقالات بحدّ ذاتها مجانية.
أما إن تسائلت: هل هناك طلبُ على خدمة “الانتقاء” فسأجيبك نعم بكل تأكيد!: فموقع تشانلز ستاك على سبيل المثال أُطلق على موقع برودكت هنت وحصل على تقييم خمسة من خمسة و400 تصويت إيجابي، فيما نجح مدير نشرة ذا براوسر من التربّح من المحتوى المجانيّ المنشور بالفعل (ومما أعانه على ذلك وجود 40,000 متابع على حساب النشرة في تويتر).
والانتقاء ليس شيئًا جديدًا تمامًا، فمن الأمثلة الكلاسيكية عليه التي تمثل أعمالًا تجارية ناجحة قائمة على الانتقاء متاجر أسطوانات الموسيقى ومحلات بيع الكتب، أما الأمثلة الموجودة في قطاع التقنية فهناك سبوتيفاي (للموسيقى)، ونتفليكس (للأفلام) وأوبر (التي ضمت خدمة أوبر إيتس في تطبيقها مما رفع حجم سوق أوبر القابل للاستهداف TAM)

مع كل هذا، لا أرى حركة اتحاد المؤثرين مع بعضهم البعض وتقديم باقة خدمات إلا أنها قد بدأت للتو. من هنا أرى أن المنتقين هم صنّاع المحتوى الجدد، وفي المستقبل سنرغب نحن المستهلكون بدفع المال لمن له ذائقة رفيعة ليساعدنا على فرز الخبيث من الطيب من هذه الكمية المتزايدة من المعلومات التي تصادفنا أثناء تمريرنا بأصابعنا عبر الشاشات.
الدوافع النفسية الكامنة وراء الحاجة لخدمة الانتقاء
قد تبين أن هناك بعض الأسس النفسية (التي أثبتها علم النفس) لحاجتنا لمن ينتقي لنا. يمكنك التعرّف لهذه الأسس على أنها مزيج مُكوّنٌ بعناية مما يآتي:
- قانون زوكربيرغ، أو ميل البشر لإجراء المزيد من المشاركات على قنوات التواصل الاجتماعي بمرور الزمن.
- عدد دنبار، وهو الحد الأقصى للعلاقات الاجتماعية المستقرة التي يستطيع المرء الحفاظ عليها في فترة زمنية معينة (والعدد هو 150).
- قانون زيف (Zipf)، الذي يقضي أنه وضمن أي نظام من الموارد هناك عدد صغير من العناصر ذات القيمة العالية، وعدد كبير جدًا من العناصر ذات القيمة المنخفضة (ومما له صلة بهذا القانون وإن بصورة بعيدة: قانون ميتكالف، الذي يرفضه الآن الكثير من العلماء والمحللين بصفته منهجية لتقييم الشبكات الاجتماعية، مع ذلك اُستعين بقانون ميتكالف العام 2012 في تبرير القيمة السوقية الجنونية والمبالغ بها للفيسبوك عند طرحه الأوليّ العام في البورصة).
بالنسبة لي تشبه ممارسة استهلاك المحتوى الرقمي بندولًا من نوع ما، إذ أننا نحب المحتوى لأقصى الحدود فنهتف “قدموا لنا كل محتوى على حدة!” هاتوا المزيد!، حتى نُغمر بالاختيارات وتكلّ عقولنا جراء الفرز من بين كل هذا الكم من المحتوى، فنقول إن هذا كثير جداً! ونهتف قدموا لنا المحتوى في باقة واحدة مرة أخرى!، وبعد فترة نعود للطرف الآخر وهكذا نظل نتأرجح بينهما. بنهاية المطاف، سينتهي بنا الأمر في مكان ما في الوسط تقريبًا ما بين هذين الخيارين (المحتوى المنفرد والمحتوى ضمن باقة)….لكننا لن نصل لتلك النقطة إلا بعد تأرجحات كثيرة ذهابًا وإيابًا ما بين صنع المحتوى وانتقائه.
ليس هناك إلا طريقتان لجني المال في مجال الأعمال: الأولى هي تجميع الخدمات وتقديمها ضمن باقة واحدة، والثانية هي فكّ الخدمات وتقديم كل واحدة منها على حدة.
جيم باركسدال
بمعرفة هذا، وفي ظل الكم الهائل من المعلومات الذي يواجهه كلٌّ منّا يوميًا، أعتقد أن هناك فسحة لسوق جديد لصنّاع المحتوى بصفتهم مُنتقين. وهنا يبرز السؤال المنطقي: كيف سيبدو هذا السوق بالنسبة للمؤثرين أو العلامات التجارية؟
كيف تنتقي؛ ولماذا؟
ليس هناك سبب وحيد يدفع صنّاع المحتوى والمؤثرين والعلامات التجارية لانتقاء المحتوى. ذلك أن الانتقاء في واقع الأمر يمكنه أن:
- يبني لمُمارسِه علامة تجارية شخصية أو يجعل جمهورًا معينًا يلتف حوله.
- يلبي حاجة معينة في سوق محددٍ. في هذا السياق، نجد على سبيل المثال نشرة فيمستريست (Femstreet) وهي مُختارات أسبوعية من المنشورات التي تُرسل في وقت مناسب تُعدّها نخبة من المستثمرات وصاحبات الأعمال من النساء. وقد تمكنت النشرة من جمع آلاف من المشتركات وكتبت عنها وسائل إعلام مرموقة مثل مجلة فورتشن وفوربس وكرنش بيس.
- إنشاء صنف جديد ضمن قطاع أعمال موجود بالفعل.
- توفير مصدر دخلٍ إضافيّ. كما رأينا من قبل مع مثال النشرة البريدية “ذا براوسر”، إذ من الممكن التربّح من المحتوى المجاني في حال أُنتقي بعناية، حيث أثبتت النشرة رغبة المستهلكين بالدفع لشخص ذي ذائقة رفيعة، وهي طريقة سهلة لإضافة تدفّق دخل آخر لعملك التجاريّ.
ولمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، سألت متابعيّ عن المحتوى المُنتقى المفضّل لديهم:
فيما يأتي قائمة مرتبة وفق الصنف لبعض من الردود التي تلقيتها. تلك المفضلة لدي ستجدها بالخط الغامق:
النشرات البريدية |
Morning Brew, Everything Bundle, LetterDrop, Femstreet, Brain Pickings, The Generalist, The Browser, Snaxshot, The Profile, The Takeoff, Social Studies, Techmeme |
المدونات الصوتية (البودكاست) |
Podcast Notes, TLDL, Shuffle, Podshots, Podcast Review |
الانتقاء من مصادر خارجية |
Pocket, Bookshlf, Listory, MyHighlights |
[ملاحظة: هناك ردود أخرى في سلسلة التغريدات أعلاه، في حال رغبت في معرفة المزيد من المصادر الأخرى!]
التربّح من الانتقاء
إن أفضل العلامات التجارية (وكذلك أفضل المؤثرين الأفراد) هم أبرع الناس في تقديم الانتقاء (الآخذ دومًا في التطور) كخدمة مدفوعة. في هذا السياق، تبدو باقة نشرات “إيفريثنغ” البريدية من ناثان ودان دليلًا إرشاديًا أساسيًا بحد ذاتها في هذا المجال، كما أوضح آري لويس ذلك في هذه السلسلة من التغريدات:
- كوّن جمهورًا أوليًا لما تقدمه
- انتقل من تقديم نفسك كفرد إلى تقديم نفسك كعلامة تجارية إعلامية
- توسّع وواصل تقديم القيمة
من إحدى الطرق في التربح من الانتقاء هي إطلاق نشرة بريدية مدفوعة، وهنا نجد باقة “إيفرينثغ” البريدية مثالًا ممتازًا. أما الطرق الأخرى فتشمل: المدونات والكتب الإلكترونية، والمتاجر الرقمية وخدمات الاستشارات وإلقاء الخطابات. بل وأنا في خضم بحثي لإعداد هذا المقال صادفت هذا المنتج الذي يسمى ReadBase والذي يتيح للمُنتقين التربح من إشاراتهم المرجعية (البوكمارك) وقوائم ما يقرأونه. في جميع الأحوال، في مُكْنة المُنتقين تحقيق النجاح من خلال بناء وجودٍ رقميٍ مستهدف ومن ثَم تقديم محتوىً مُنتقىً لذلك الجمهور.
وقد أضحى من الواضح أن انتقاء المحتوى في مجال متخصص طريقة رائعة لبناء جمهور وفيّ وتقديم قيمة له. ذلك أن انتقاء المحتوى يجذب الناس لأنه يوفّر لهم فرصة تعلم مهارات جديدة دون تضييع الوقت، كما يجعلهم الانتقاء يعودون من خلال ضخ شعور بالانتماء في أفئدتهم لمجتمع قائم حول موضوعٍ ما أو قطاع معين. وكما نقرأ في مقابلة أجرتها هارفارد بزنس ريفيو مع مارك أندريسن وجيم باركسديل، يمكن للانتقاء ولضمّ الخدمات في باقة موحدة أن يكون قرارًا استراتيجيًا لعملك التجاري، في حال نفذّته بصورة سليمة.
والانتقاء إلى حدٍ ما هو شكلٌ خاص من التَّنَاص، أو تشكيل معنى أحد النصوص بواسطة نصٍ آخر. إن المحتوى لا يوجد في الإنترنت هكذا في الفراغ، بل يشغلُ حيزًا، وهو يكوّن شبكة من التأثير والوصلات. لا شك أن لدينا المحتوى. السؤال الآن: ما الذي سنفعله بهذا المحتوى؟
تُرجمت هذه القطعة من المحتوى بإذن كاتبتها الأصلية: غابي غولدبرغ.
ترجمها للعربية: يونس بن عمارة – لطلب خدماتي في الترجمة تواصل معي هنا.
حقوق الصورة البارزة: Photo by Michael LaRosa on Unsplash
شكرا يونس . انت تقدم خدمة جليلة لصناعة المحتوى العربي بالترجمة والنشر .
إعجابLiked by 1 person
العفو. 🙏
إعجابLiked by 1 person
مرحبا أخي يونس
اختيار موفق. وترجمة بديعة وملهمة.
لذلك، بعد قرائتي للمقال خطرت لي فكرة ما.
عن إنشاء playlist أو قناة على اليوتيوب كجزء من (التدوين الإنتقائي) تحمل مثلا عنوان : من هنا أو هناك| (عن التسويق مثلا) أو أي موضوع آخر.
تحتوي على فيديوهات مجمعة من هنا وهناك.
هل تعتبر هذه سرقة؟ أو شيء من هذا القبيل!
مارأيك؟
إعجابLiked by 1 person
قائمة التشغيل أفضل من القناة لأنه لن تواجهي مشكلة الحقوق الفكرية
إعجابإعجاب
شكرا على ردك أخي يونس. سأطبق نصيحتك.
إعجابLiked by 1 person