خمس ملاحظات على الذوق مع محاولة لمعرفة كنهه

مساء الأذواق الرفيعة،

سبب كتابة هذا المقال أن نشرتين أنا بهما مشترك هما نشرة ذا ديف (The Diff) ونشرة ليندي (Lindy Newsletter) أشارتا معًا لهذا المقال الذي كتبه بري ولفسُون (Brie Wolfson) وعنوانه “ملاحظات عن الذوق“؛ وهو محاولة قيّمة تبحث في مسألة الذوق. وقد طالعته وأعجبني. وها أنا أحمل دلو أفكاري لأدلي به في بحيرة النقاش عن الذوق.

ومن المقال أعلاه نقتطف الملاحظة رقم 12 القيّمة:

أفضل تعريف للذوق وجدتُه يأتي من الرسّام جون فولي (John Folley)، الذي قال أن «الذوق الرفيع ليس في حقيقته إلا رأيٌ حَسَنُ الإنشاء، بما يتفق مع حقائق ما هو الخير وما هو الصواب» إنّ هناك خيارات ذات طعم وهناك خيارات لا طعم لها. والذوق الرفيع ينمّ أن صاحبه مُتّخذُ قرارات ذو حكمة.

مقال عن الذوق تأليف: بري ولفسُون (Brie Wolfson)

وفيما يلي أدناه ما كتبتُه عن هذه المسألة.

الذوق ولا شكّ مسألة غامضة، ويقال لولا تنوّع الأذواق لبارت السلع، وفلان ذو ذائقة راقية وهو صاحب ذوق رفيع وما شابه. لكن ما هو الذوق؟ هذا ما سأحاول بعون الله الكتابة عنه اليوم.

وبعد قراءة المقال الذي أشرنا له أعلاه والذي اجتهد الكاتبُ حقًا فيه في محاولة تعريف الذوق، دون أن يصيبَ نُجحًا في نظري، ولا ملامة عليه في ذلك إذ حاول واجتهد ولا أدعيّ أني سأضع يدي مستوليًا على معنى الذوق وتعريفه هنا إنما سأشير إلى ملاحظات هامّة عنه مما استنبطته بتفكيري:

1. الذوق أبرزُ ما يكون عند عملية الاختيار

يتجلى الذوق أبيَن ما يكون عند الاختيار. فمثلًا عندما اختار الكثير من المؤلفين العرب أشعارًا وقصائد في كتب سمّوها الحماسة فإن ما اختاروه اختاروه بذوقهم، وراجت بعض كتب الحماسة ولم تَرُج أخرى. (وهي كتب عديدة وليست كتابًا واحدًا كل واحد له مؤلّفه مثل حماسة أبي تمام وحماسة البحتري وحماسة ابن الشجري وغيرهم كثير).

كما يتجلى الذوق عند الذهاب للتسوّق و”الاختيار” بين المتاح. وهذه ملحوظة هامة إذ عرفنا الآن أن الذوق يبرزُ عند الاختيار.

2. ما لا عهد لك به لا ذوقَ لك فيه

في مسلسل ربيب الذئاب (Raised by Wolves) وُلِد بطل القصة “كامبيون” في كوكب ناءٍ مُوحش مهجور بارد وليس فيه من الطعام الكثير، فهو لا يعرف البيتزا ولم يذقها في عمره.

فإذن “كامبيون” لا ذوق له في البيتزا ووفق ذلك لا يجوز:

  • أن نطلب منه مثلًا أن يختار (دون أن يتذوق أولًا) بين ما هو الأفضل من البيتزا تلك التي فوقها الأناناس أو تلك التي فوقها الفطر؟
  • أن نركن لحُكمه فيهما لأنه لا ألفة له بهذا الطعام لفترة كافية

3. لتنمية ذوق في مجالٍ لا بد من التعرّض لما يكفي من محتوى ذلك المجال

من قرأ قصيدتين في حياته لا حكمة في رأيه وذوقه الشعري لا يُعتدّ به. ومن قرأ القصائد الموزونة كلها لكنه لم يقرأ ولا قصيدة نثر فإن رأيه في قصائد النثر لا يعتدّ به. ومن لم يشاهد ما يكفي من أعمال سنيمائية فاختياره بين الأفلام وذوقه فيها لا يعوّل عليه.

والمعضلة في هذه الملاحظة هي سؤال: ما العدد الكافي الذي ينمّي الذوق الذي يعوّل عليه في مجال ما؟

الجواب العامّ: كلما تعرضت أكثر لمحتوى المجال كان ذوقكَ أرفع. لكنها ليست قاعدة عامّة فقد يكون أحد الذوّاقة أقل استهلاكًا لمحتوى مجال بعينه من ذوّاقة آخر مع ذلك يكون ذوق الأقلّ استهلاكًا أرقى. لكن لا شكّ البتة في أن ذلك الذوّاقة المستهلك كثيرًا لمحتوى المجال أحسن ذوقًا ولا شكّ ممن ليس له استهلاك أو استهلاكه ضئيل للغاية في المجال.

لذا الضابط هنا أنّ هناك حدًّا أدنى يتكون به الذوق في المرء وهو غير محدّد بعد في كلّ المجالات. وأقترح اعتماد رقم النقّادة والذوّاقة خلف الأحمر الذي رأى ألا يأذن لأبي نواس بقول الشعر حتى يحفظ ألف مقطوع للعرب.

…فها هو أبو نواس يستأذن خلفا الأحمر في قول الشّعر فلا يأذن له إلا بحفظ ألف مقطوع للعرب مختلف أشكاله، ويعود إليه بعد مدة وقد تمّ له ما أراد. فلا يأذن له إلا بعد إحكام نسيان ما حفظ، فيقيم مدّة إلى أن يتلاشى ما كان قد حفظه من ذاكرته، فيسمح له خلف بما أراد.

الطِّرس والدَّواة بحث في تطريسية شعر محمد الخالدي، تأليف: لطيّف شنهي، الدار التونسية للكتاب. ص 195

لذا نقول:

يتكون لدى المرء حدّ أدنى من الذوق في مجالٍ أو شيء ان استهلك منه ألفَ قطعة فأكثر عقليًا كان الاستهلاك أو بدنيًا

وطلبُ خلف الأحمر من أبي نواس بالحفظ لا مجرد القراءة جيّد ودقيق ويُنبئ عن علم هذا الرجل. فالحفظ تشرّبٌ ما يعني تذوقًا أعمق للنصّ. وهذا ما يؤدينا للملاحظة التالية: أن الذوق نابع من التجربة.

4. الذوق نابع من التجربة

في حصص الفلسفة في الجزائر يدرّسونكَ أنه ووفق الفلاسفة مصدر المعرفة البشري إما أن يكون:

  1. نابعًا عن تجربة علميّة
  2. نابعًا عن العقل
  3. نابعًا عن ذوق صوفيّ
  4. قد يكون مزيجًا من التجربة العلمية والتعقّل الذهني أي مزيج من 1 و2

والذوق تجربة لكن الذوق الصوفي تجربته ذاتية وغير قابلة للتكرار والوضع تحت المجهر وتتسم بالوجدانية. مع ذلك الذوقُ في مجالات أخرى مثل الملابس والأزياء أيضًا في جملة كبيرة منه تجربة ذاتية قريبة من مفهوم الذوق الصوفي وهو في لبّه معناه: التقاط المعرفة بلا استنباط ذهنيّ ولا تجربة علميّة.

5. الذوق لا يخرجُ عن السياق البشريّ

الذوقُ في الحكم على الأمور مثل الملابس والنصوص والأثاث وزينة المنزل مشترك بين جملة من أفراد النوع البشري. حتى مع اختلاف الأذواق بين من يسلّم الناس إجمالًا لهم بحُسن ذوقهم ورفعته.

لذا هناك معيار عام وإن أنكر وجوده أنصار ما بعد الحداثة بقولهم أنه لا ذوق مشترك والكلّ نسبيّ والسيولة هي أقرب تجسيد للواقع فالكلّ سائل لا أبيض ولا أسود والجميع مفاهيمًا وأشياءَ رماديّون، وفشلُ العقلانيين في مجابهة ادعاءات أبناء ما بعد الحداثة نابع من عدّة أمور من بينها في نظري عدم استنباط الذوق من الذوّاقة المعتدّ بهم. فلو اجتهد العقلانيون ووضعوا أسسًا أو على الأقل محاولات تعلّم الخلق ما هو الرفيعُ في مجالات شتى دون تنطع ولا محاباة وبأمانة لقلّ تأثير أنصار السيولة الفكرية.

ومما زاد الطينة بلّة، أن الاختيارات الحالية ليست مبنية على قواعد منضبطة ومبررات مقبولة؛ على سبيل المثال لو تقرأ كتب المختارات أيًا كان المجال؛ لا سيما المختارات المتعلقة بالجوائز مثل هذه: أفضل القصص القصيرة 2021 فستجد أن هناك قصصًا خارجها هي أحسن منها بكثير. وأن كثيرًا من تلك القصص اختيرت لأن أصحابها ذوو أسماء وليس لأنها حسنة.

والجوائز ولجان تحكيمها والمكائد والحسد والتلاعب والسياسة جعلت الناس تنظر لها بعين الريبة والشكّ ولا ملامة على من ارتاب فيها.

لذا فإننا بحاجة إلى مُنتقين شجعان مثلما فعل أجدادنا بتأليفهم كتب الحماسة والأمالي والمختارات وغيرها ينتقون لنا -كلٌّ في مجاله- أفضل ما في ذلك المجال لخلق ذوقٍ عام رفيع في ذلك المجال.

انتهى المقال.

إن أعجبك شاركه ولك أجر؛ أو شاركه واشترك في رديف ولك أجران.


يونس يسأل: ما الذوقُ برأيك؟


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


حقوق الصورة البارزة: Photo by Battlecreek Coffee Roasters on Unsplash

رأي واحد حول “خمس ملاحظات على الذوق مع محاولة لمعرفة كنهه

  1. أمر الذوق عجيب.. وفيه نسبية وذاتية لابد منها… وهناك قواعد عامة للجمال ولها أسس فلسفية وكذلك للذوق.. لكن دون أن تكون سفسطة ذاتية أو تسييل لأي شيء (سفسطة أخرى).. وهناك أناس ذوقهم سيء في بعض الأمور ولا يجب عليهم الحزن من هذا..

    Liked by 1 person

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s