مساء الخير، هذه إجابتي على سؤال في موقع Quora على سؤال هو عنوان التدوينة:
من الصعوبة بمكان أن تبين بلاغة القرآن الكريم لشخص لا يعرف العربية وفنونها، ومن الصعوبة أيضًا شرحها حتى لو كان عربيًا لكن لا يدرك البلاغة.
عرّف البعض البلاغة أنها “الإعجاز في الإيجاز”، أي بعبارة حديثة: إيصال ما تريد من معنى بأقلّ عبارة ممكنة؛ ولتأمل نصوص بليغة (غير القرآن الكريم) يمكنك مطالعة مقولات سيدنا علي رضي الله عنه مثلًا فأقواله الممتازة تضم في بطونها كتبًا كاملة من المعاني.
المشكلة الأخرى التي تواجه من يريد دراسة البلاغة القرآنية أن الكتب والمذكرات الجامعية حولها لم تُكتب والكاتب يضع بالحسبان فهم الإنسان العاميّ لها، كما أن هذه العلوم النفيسة أي البلاغة وما إليها لم تُبسّط إلا بجهود فردية في بعض فيديوهات اليوتيوب قدمها مشائخ كرام مثل محمد إبراهيم عبدالباعث [1] الذي أعتبره قام بجهد عظيم في توضيح وجوه مميزة من بلاغة الذكر الحكيم.
لنأخذ ثلاثة أمثلة فقط تمثّل بعض أوجه بلاغة القرآن الكريم:
- أسلوب التضمين
وهو تضمين معنى أصليّ معنىً اعتباريًا بحيث يدل على المعنى الاعتباريّ علامة.
ومن العلامات: تعدي الفعل بحرف غير حرفه الأصلي. أي أنك بصفتك عربيًا لما تقرأ في القرآن فعلًا متعديًا بغير الحرف الذي اعتدت أن تراه يتعدى به. اعرف أن هناك تضمينًا. وسنأخذ أمثلة:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
في العادة أنت تقول أشرب من الشيء (الوعاء أو الكأس أو العين…) ويشرب منها.. ولا تقول بها.
فإذن وجود حرف باء غير معتاد مع فعلٍ ألِفنا أن يتعدى بحرف ‘من’ دليل أو علامة تحفزنا على التنقيب على معنى داخل العبارة.
ولأن شربك في الجنة لا يكون عن ضمأ، أو عطش، أي أنك في الجنة لا تشرب عن عطش، إذًا لمَ يشربُ المرء في الجنة؟ لأجل التلذذ ولهذا كأن الآية تقول في الحقيقة: عينا يشربون منها متلذذين بها وكل ذلك قاله فقط بحرف واحد هو الباء. (مستفاد من الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث).
والأمر لا يقتصر على الأفعال فقط بل حتى العبارات المألوفة والتي تأتي مخالفة للمعتاد، مثال أنت تقول عادةً: هذا شخص لطيفٌ في معاملاته. ولا تقول لطيفٌ لمعاملاته. مع ذلك تقرأ في القرآن:
إن ربي لطيف لما يشاء.
فقال العلامة الفقيه أبو عبدالله ابن البقال
أن اللطيف إما خالق اللطف فيكون صفة فعل، أو العالم بخفيّات الأمور، فيكون صفة ذات، ودخول اللام على من يشاء لإشراب لطيفٍ معنى فاعل، أي فاعل لما يشاء على وجه اللُطف تفضلًا منه لا إيجابًا عليه… (كتاب أجوبة العلامة الفقيه أبي عبدالله ابن البقال على أسئلة الفقيه أبي زيد القيسي في حل إشكالات تتعلق بآيات دار البشائر الإسلامية ص 60)
فبدل أن يقول: إن ربي فاعل لما يشاء على وجه اللطف، وهي عبارة طويلة، قال إن ربي لطيف لما يشاء. فضمّن معاني كثيرة بمجرد حرف واحد وحسب هو اللام.
وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ
والأصل أن تقول تقرّبت إلى الله، وقربات إلى الله. ويشرحها الشيخ محمد إبراهيم عبدالباعث [2] أن ‘عند’ هنا كأنه يقول:
أي يتخذ ما ينفقه من النفقات التي يتقرب بها إلى الله مؤملًا ثوابها عند الله عند الرجوع إليه. أو أي قربات مدخّرة (أو مذخورة) عند الله.
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وأنت تقول نَصَرَ على، يعني نصرته على أعدائه وليس من. فما دام وُجد حرف غير معتاد فها هنا يعني وجود معنى مضمّن. فنبحت لماذا. وهنا يقول مرة أخرى الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث:
أن النصر له وجهان: النجاة من العدو، والآخر الظهور على العدو بإهلاكه.
أي نصرناه بأن نجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا… فأدخل معنى النجاة من العدو دون أن يقول ذلك وبحرف واحد فقط هو ‘من’.
مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ
الأصل: ظَفِر بـ إذ يتعدى ظَفِر بحرف الباء وليس على. مثال ظفر بعدوّه وظفر به.
والمعنى: من بعد أن أظفركم بأن أظهركم عليهم، فاكتفى بحرف على ولم يقل أظهركم.
فها هنا أيضًا أدخل معنى أظهركم عليهم في الجملة دون أن يقولها فعليًا، وبحرف واحد فقط هو ‘على’.
- إضمار القول
وهو حذف قال وما شابهها لعدم الحاجة لها اعتمادًا على فطنة السامع، مثل قوله تعالى:
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
أي يقولون يا ويلنا. ومثل هذا كثير في القرآن طالعه هنا لمحات عن دراسة حذف القول.
- أسلوب الحكيم
وهو من أروع الأساليب البلاغية التي يجهلها كثير من الناس، ومقتضاه هو الردّ على السائل بجواب غير الذي طلبه بحيث يكون الجواب أهمّ له وأنفع في دنياه وآخرته.
وها هنا مقال ممتاز عن هذا الأسلوب مع أمثلة عليه من القرآن والسنة: مجلة الكلمة – أسلوب الحكيم.
للاستزادة شاهد وطالع:
- تفسير القرآن للشيخ الشعراوي (يوتيوب)
- تفسير القرآن للشيخ محمد إبراهيم عبدالباعث (يوتيوب)
- طالع أيضًا عن «فن الإيضاح» و«فن الاحتراس» و«فن التعليق» و«فن المطابقة المعنوية» وغيرها من فنون البلاغة القرآنية هنا: لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش الحلقة التاسعة: أسرار البلاغة في الآيتين: 111و 112 من سورة آل عمران [الرابطة المحمدية للعلماء]
- كتاب الروض الأزهر فيما تضمنته سورة الكوثر من وجوه البلاغة وفنون الفصاحة والبراعة للشيخ الفقيه أبي العباس أحمد ابن أبي عثمان سعيد بن إسماعيل النقاوسي (كان حيًا عم 747 هـ) تحقيق الدكتور عبدالله بن سليمان السعيد كلية الآداب جامعة الملك سعود المملكة العربية السعودية، جامعة الأزهر حولية كلية اللغة العربية بنين بجرجا، العدد 24 للعام 2020 الجزء العاشر.

الهوامش
[1] https://youtu.be/RRPlyFXw_xg[2] https://youtu.be/bABLQDcc9hk?t=1358
حقوق الصورة البارزة: Photo by Abdullah Arif on Unsplash
فعلا استفدت كثيرا من هذه الإجابة خاصة أسلوب التضمين.. بارك الله فيك..
إعجابLiked by 1 person
الحمد لله وقد تكلم عنه كثيرًا الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث لكن في فيديوهات متفرقة غير مجموعة للأسف.
إعجابإعجاب
جميل جدا .. في قضية إثبات أن القرآن كلام الله وتبيين بعض نقاط الإعجاز فيه ومنها ما ذكرت أعلاه ، هناك أيضا كتاب النبأ العظيم لمحمد دراز رحمه الله ، وقد كتب بأسلوب جميل .
إعجابLiked by 1 person
شكرا لمشاركة الكتاب
إعجابإعجاب