مساء الأنوار،
طرح علي الأستاذ أحمد مكاوي هذا الموضوع فبارك الله فيه. أحمد مشترك في رديف فاشترك أنت أيضًا في رديف.
لننقل سؤاله نصًا هنا ونجيب عليه مستعينين بالحي الذي لا يموت:
كيف أصل إلى أسلوبي الخاص ؟
فنقول:
عندما يُذكر الأسلوب في الأدب والكتابة، يُستشهد بالغالب بعبارة هي:
الأسلوب هو الرجلُ
ودعني قبل أن نذهب إلى كيف تخلق أسلوبك وصوتك المفارق والمميز؛ -أو ما أسميه عملية نحت حيّزك في هذا العالَم– نتقصّى عن حقيقة هذه العبارة.
تحرٍ عن عبارة «الأسلوب هو الرجل»
ترد هذه العبارة بمختلف المتغيّرات وتُنسب لرجال مختلفين لكن المجمل أنها من ناقد أو كاتب فرنسيّ والراجح أنه بوفون كما يقول أحمد الزيات.
وفي كتاب رجال من بلادي للمؤلف رجاء النقاش، أطلس للنشر، ص 358 نقرأ مثلًا نسبتها إلى سانت بيف. لكن الكاتب رجاء يبرّأ ذمته بأنه يعتمد على ذاكرته في هذه النسبة ويخبرنا من أين “سرق/استلهم” طه حسين عنوان كتابه حديث الأربعاء.
إن كنت تسأل فأعتقد أن حديث الخميس غير مأخوذ حتى الآن فعليك به إن رغبت بتأليف مقالات نقدية.
“الأسلوب هو الرجل”…عبارة شهيرة للناقد الفرنسي “سانت بيف”، 1869-1814 وهو صاحب كتاب حديث الإثنين الذي استوحى منه طه حسين عنوان كتابه الشهير “حديث الأربعاء” ولعل هذه العبارة تكون لناقد آخر غير سانت بيف، فهي عبارة تتفوق في شهرتها على شهرة صاحبها…وأنا أعتمد على الذاكرة في رواية هذه العبار الدقيقة الجميلة، فالأسلوب حقا هو الرجل، وإن كنت أفضل أن تكون الترجمة لهذه العبارة هي أن تقول: إن الأسلوب هو الإنسان، رجلا كان أو امرأة لأن النساء يكتبن أيضا كما يكتب الرجال.
وأنا أوافق الأستاذ رجاء في أن ترجمتها الأفضل هي أن الأسلوب هي الإنسان وليس الرجل.
وفي كتاب دفاع عن البلاغة لأحمد الزيات نقرأ -فيما أظن- النسبة الصحيحة للعبارة مع شرحها الصحيح كذلك وفق أحمد الزيات وهو مقطع هام نقلته هنا كما هو لتعمّ المنفعة:
قال أبو هلال: (ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي؛ وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه….وقال لابروبير (إن هوميروس وأفلاطون وفرجيل وهوراس لم يبن شأوهم على سائر الكتاب إلا بعباراتهم وصورهم). وقال شاتوبريان: (لا تحيا الكتابة بغير الأسلوب. ومن العناء الباطل معارضة هذه الحقيقة؛ فإن الكتاب الجامع لأشتات الحكمة يولد ميتا إذا أعوزه الأسلوب).
هؤلاء ومن لف لفّهم من أنصار الصياغة أقرب إلى الصواب من أولئك الذين كفروا بها وشنعوا عليها.
ذلك لأن تجويد الصور يستلزم تجويد الفِكر وليس كذلك العكس. والعناية الدقيقة بالعبارة سبيل إلى إجادة التفكير وإحسان التخيل كما يرى فلوبير. وفلوبير هذا كان إمام الصناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره، فكان لا يكرر صوتًا في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة. وكانت أذنه هي الحَكم الأعلى في صوغ الكلام، فلا تسيغ منه إلا ما حسن انسجامه وتعادلت أقسامه وتوازنت فقره.قال فيه تلميذه ومواطنه موباسان: (كاين يرفع الصحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظره وهو معتمد على مرفقه، ثم يتلو ما كتب جاهرًا بتلاوته، مصغيا لإيقاعه؛ فكان في نَبره وإرساله يوفق بين السكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعًا دقيقًا محكمًا فكأنها الاستراحات في الطريق الطويل).
وقال هو لبعض أصحابه: (تقول إنني شديد العناية بصورة الأسلوب، والصورة والفكرة كالجسد والروح هما في رأيي شيء واحد. وكلما كانت الفكرة جميلة كان التعبير عنها أجمل. إن دقة الألفاظ من دقة المعاني، أو هذه هي تلك).
دفاع عن البلاغة تأليف أحمد حسن الزيات تح محمد عبدالعزيز عبدالخالق، دار الكتب العلمية صفحات 50، 51، 52
وقد غالى علماؤنا البيانيون فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها. فمن أخذ معنى بلفظه كان له سارقًا، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخًا، ومن أخذه فكساه لفظًا أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه.
على أن هذا الرأي الجريء لم يكن رأي العرب وحدهم، وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن الأسلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية، أن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.
نعم قال بوفون: إن الأسلوب من الرجل نفسه le style est de l’homme même
ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل le style est l’homme كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال إن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس، وإنما أراد أن الأسلوب، ويعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة. ومعنى ذلك أن الأفكار تكون، قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكًا خاصًا له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه. فالأسلوب وحده هو الذي يُملّكك الأفكار وإن كانت لغيرك.
عودة لسؤال الأستاذ أحمد.
كيف تخلقُ أسلوبك؟
كما رأينا أعلاه وعلّمنا الأستاذ أحمد الزيات:
- المعاني والأفكار ملكية عامة للجميع
- الأسلوب يعني صورة نقل تلك الأفكار وشكلها وصياغتها
- الملكية الفكرية تعودُ ليس لصاحب الفكرة إنما لصاحب أفضل صورة لتلك الأفكار وأبرع من نقلها بأسلوبه
كلُّ كلام يبرُز وعليه كسوةُ القلب الذي منه برز
ـــ ابن عطاء الله السّكندري
لذا يمكنك خلق أسلوبك بهذه الخطوات:
- عرّض ذهنك لكمٍ مستمر من الأفكار والمعاني (من الأخبار والمعلومات والدراسات والمرئيات والنصوص والكتب…)
- انتقِ ما يروقك من معاني وأفكار
- اكتب عنها كما تفهمها وتعرفها وتراها (تمرين يومي: كتابة 250 كلمة يوميًا ستكون بداية جيدة)
- كرر الخطوات من 1 إلى 3 قدر المستطاع
هناك خطوة أخرى كذلك هامة وهي “السرقةُ الفنية”
حيث يمكنك الاستلهام من عدة أساليبٍ تعجبك وتضمّها تحت أسلوبك. ذلك أن أسلوب المرء ليس إلا تجميع وتركيب لما يرى بذوقه أنه جميل.
وإليك 3 سرقات فنية أجريتها فعلًا بنفسي:
مِن أحمد خالد توفيق
مثلًا في هذه التغريدة استلهمتُ أسلوب “وأعني/أقصد بهذا كذا وليس ما ذكرتُه سابقًا” من أحمد خالد توفيق لأنه يكرره في كثير من المواضع في كتاباته:
كلمة “طيب”
كلمة طيب لم تكن في قاموسي اللفظي ولا الكتابي في الحقيقة، واستلهمتها من فاطمة حداد، مؤسِسة استكتب.
كلمة “صحة” عند سُعال محدّثك
وهذه أيضًا لم تكن في قاموسي اللفظي واستلهمتها من الكاتبة المميزة مرام عبد الحفيظ.
أوصيت من قبل بقراءة كتاب “اسرق مثل فنان” وهذه النقطة مناسبة طيبة لتذكيرك بقراءته.
كيف تعرف أن أسلوبك تكوّنَ وصار لك صوتك المفارق؟
المعيارُ هنا أنه لا بد أن تقدّم عدة نصوص دون نسبة لأصحابها لقارئ على إلمام بكتاباتك إلمامًا طفيفًا وليس عميقًا فإن تمكن من معرفة ما كتبته ضمن جملة من النصوص فتهانينا قد صار لك أسلوبك وصوتك الخاص.
ولكي تطبّق المعيار بصورة صحيحة راعِ هذين النقطتين:
- لا تطلب رأي الأصدقاء لأنهم سيتمكنون في الغالب من رصد كتاباتك من بين حشد هائل من الكتابات لأنهم على معرفة عميقة بك
- عند اختيار النصوص الأخرى عدا نصك. حاول أن تكون النصوص متقاربة مع نصّك لكي تكون عملية الاختيار بينها ليست سهلة جدًا
فهكذا إذن تكوّن أسلوبك وكيف تعرف أنه تكوّن.
انتهى المقال. شاركه ولك الأجر أو اشترك في رديف ولك أجران.
أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر
يونس يسأل: كيف كوّنت أسلوبك؟