ماذا أطالع هذه الفترة؟ الأزمة التأسيسية للعلوم وجنون كورت غودل وألمعيته

مساء الخير،

طالعت هذه الفترة مقالين دسمين عن موضوعات مهمة لي. الأول من تأليف ديفيد تشابمان وهو متخصص في بحث المعنى ودحض العدمية والحديث في الخلل الواقع بالعقلانية بصورتها الحالية.

والثاني عدد من نشرة بريدية يُعدّها يورغن فايسدال (Jørgen Veisdal) مخصص كليًا لعالم رياضيات أحبّه اسمه كورت غودل، والوقت المحدد لقرائته 45 دقيقة وهو طويل جدًا لكنه ماتع.

ولنبدأ بالمقال الأول:

الأزمة التأسيسية للعلوم

مما كتبه ديفيد تشابمان بصفته تقديمًا لمقاله الماتع والفريد انهيارُ اليقين العقلاني لمشتركي نشرته البريدية:

كنت مهووسًا بهذا الموضوع (أزمة الأُسس في الرياضيات والفيزياء) منذ أن كنت طالبًا جامعيًا في تخصص الرياضيات ولمّا أتجاوز التاسعة عشر ربيعًا.
وقتها كان هناك ما يلي…عندما أسأل أساتذة الرياضيات بعض الأسئلة البديهية، تظهر على سيماهم مشاعر سلبية لا يسعني وصفها بدقة، حيث يغيرون الموضوع فجأة، أو يكتفون بالتظاهر أنني لم أطرح السؤال.
كنت أسأل أسئلة من مثل: “إذًا ما هو العدد الحقيقي؟” أو “كيف تعمل البراهين (الرياضية)؟” لم أكتشف سبب عدم طرح آخرين لمثل هذه الأسئلة الأساسية، ولا سبب عدم استعداد أيٍّ من الأساتذة لنقاشها والإجابة عليها.
لذا ذهبتُ للمكتبة ووجدت الأجوبة الرسمية بنفسي، وعندما كنت في التاسعة عشر أرضتني وكفتني تلك الإجابات.

لكنّي لم أدرك إلا بعد عقود أن سلوك الأساتذة المريب لم يكن إلا بقيّة قلقٍ من الصدمة الجماعية التي أحدثتها الأزمة التأسيسية للعلوم.
حدثت الصدمة قبل أن يولد هؤلاء الأستاذة حتى، لكن ليس قبل ولادة معلميهم هم أنفسهم. كان هؤلاء الأساتذة (أساتذة ديفيد) مدركين أن الإجابات الرسمية ليست إلا أغطية تستر هوّةَ رُعبٍ لا قعر لها.

هكذا عكفت على قراءة عدد هائل من المواد التي كُتبت عن الموضوع على مدار بضعة عقود، حتى صرتُ على أُلفة بقصة هذه الأزمة التأسيسية للعلوم بحذافيرها.

ومعظم ما كُتب عن الموضوع سيكونُ مألوفًا لكل من درس بجدية أحد تخصصات ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﻭﺍﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ والهندسة ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎﺕ (STEM) مع أن قصة الأزمة التأسيسية غامضة إجمالًا وفقدت أهميتها لأن السرديّة الإجمالية (الصورة العامة للقصة) لمّا تُوضّح تفاصيلها الكاملة بعد.

في هذا السياق، قضيتُ في الواقع بضعة أسابيع تفرّغت فيها كليًا للبحث كي أكتب هذا المقال (الفصل)، حث تصفحت أكثر من مئة مصدر، للتحقق من المعلومات والعثور على اقتباسات وكي أكون متيقنًا أني أتذكر تفاصيل القصةَ (الأزمة التأسيسية للعلوم) بصورة صحيحة.

لماذا فعلت هذا؟ لأنه لم يكتب أحد قط عن هذا من قبل. وهذا أمر غريب ومستنكر للغاية. تُعدّ الأزمة التأسيسية (للعلوم) أحد أهم الأحداث في تاريخ القرن العشرين، لأنها أدت إلى انبثاق ما بعد الحداثة، التي شكّلت بدورها الموضوع الرئيسي (الثيمة) للنصف الثاني من القرن، مع ذلك لم يكلّف أي مؤرخ محترف نفسه عناء تفسير هذه الأزمة.

وأظن أن هذا الإهمال والتغافل يشبه الإهمال والتغافل الذي نعيتُه بشأن العدمية وتفسيري لماذا العقلانية غيرُ ناجحةٍ من ناحية تقنية.

وجميع ما سبق مواضيع يتفق العاملون في المجالات الأكاديمية ذات الصلة على أنها ذات أهمية فائقة، لكنهم فشلوا -بصورة غامضة- في إثارة النقاش عنها والكتابة عنها.

وفي كلٍ من موضوع الأزمة التأسيسية للعلوم والعدمية ولا جدوى العقلانية لوحدها، يسهل الوصول للحقائق المتعلقة بهذه المواضيع وهي ليست مثار جدل، ويمكن مطالعتها بيُسر في الأدبيات المتاحة مجانًا بل حتى في ويكيبيديا مع ذلك لم يقم أحد من قبل بتجميعها معًا.

ونظريتي بشأن سبب ذلك -لماذا أُغفلت هذه المواضيع؟- أن التحليلات الواضحة واضحةٌ إن كنت تعرف هذه الحقائق، ومن ثَم ليس في مُكنتك تلقي ثناء أو فضل أكاديمي بشأنها. لهذا لم يزعج أحد نفسه بالكتابة في الموضوع كما أعتقد.

مشكلة هذا التغافل، أن فهم هذه المواضيع، وهو فهم ذو أهمية بالغة، غير متاح للعامة.
هكذا ألقيتُ على عاتقي -ولا أدري لماذا- مهمة أن أكتب هذا الفهم لأول مرة في التاريخ.
أعتقد أنه ينبغي أن أنال وسامًا للخدمة العامة التي قدّمتها أو شيئًا من هذا القبيل..

ديفيد تشابمان في رسالة إلكترونية للمشتركين في تحديثات موقعه meaningness.com (الذي هو كتاب مجاني مفتوح يؤلفه علنًا)

تعليقي: هو يستحق فعلًا وسامًا على جهده هذا.

وإليكم المقال الذي كتبه ديفيد تشابمان: انهيارُ اليقين العقلاني

سنقرأ في المقال هذا الاقتباس الذي يعكس مثلًا عمق الصدمة الناجمة عن الاكتشافات التي سببت الأزمة التأسيسية للعلوم مثل مبرهنة عدم الاكتمال لغودل. حيث نقرأ هنا ردة فعل أحد علماء الرياضيات والمنطق:

ها أنت تقرأ مقالات يكتبها هيرمان وايل أو جون فون نيومان [من أشهر الرياضيين الفيزيائيين في تلك الحقبة] يقولان أشياء كهذه [لا يمكن برهنة أي نظام رياضي بصورة تامّة لا يتطرق لها الشك]
لقد أصبحتُ عالم رياضيات لأن الرياضيات كان ديني الذي أدين به، لقد آمنتُ بالحقيقة المطلقة، إذ ثمةَ كان الجمال، كان الواقع فظيعًا فعشت لاجئًا في عالم نظرية الأعداد.
وفجأة أتى غودل ودمّر كل شيء، ورغبتُ في قتل نفسي.

التغميق مني

حياة غودل وجنونه

على ذكر غودل طالعت كذلك فقط هذا العدد من النشرة البريدية عنه وهو من كتابة يورغن فايسدال (Jørgen Veisdal) وعنوانه جنون كورت غودل اللامع: وصف ديفيد فوستر والاس غودل بأنه “أمير الظلامِ المُطلق في الرياضيات الحديثة” وصدمتني هذه المعلومة:

في الجزء الأخير من حياته، لم يتناول [غودل] إلا الطعام التي كانت زوجته أديل تُعدّه له. وعندما دخلت أديل المستشفى عام 1977، وخوفًا من أن يُسمم طعامه، امتنع [غودل] عن تناول الطعام كليًا، ونتيجة لذلك توفي بسبب تجويع نفسه حتى الموت. تفيدنا شهادة وفاته أن وزنه كان 29 كيلوغرامًا وقت وفاته، وأن الوفاة حدثت بسبب “سوء التغذية والمَسْغَبَة الناجمة عن اضطراب في الشخصية”

التغميق مني

هذا جزء مما طالعته هذه الفترة، كونوا بخير ولتدوينة الغد إن شاء الله.


أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر


يونس يسأل: ماذا تطالع هذه الأيام؟

8 رأي حول “ماذا أطالع هذه الفترة؟ الأزمة التأسيسية للعلوم وجنون كورت غودل وألمعيته

  1. لو طلعت من هذا المقال بكلمة “المَسْغَبَة” فقط لكفتني. تيقنت بعد هذا المقال أنه لا حدود لهتماماتك؛ ننتظر مقالة عن ميكانيكا/فيزياء الكم 🙂

    Liked by 1 person

    1. أهلا البندري وأشكرك لكلماتك الطيبة

      المسغبة هي الترجمة الموحدة المعتمدة لكلمة inanition من المعجم الطبي الموحد

      إن شاء الله لما يتوفر لدي ما يكفي من معلومات حول الموضوع المطلوب سأكتب عنه

      Liked by 1 person

      1. أنا أعد نفسي مبتدئًا.. لكن ليس قبل كورس أو كورسين بلارافيل وتطبيق مشروع أو مشروعين بها.. هنا ستسفيد من الكتاب أكبر فائدة.. وعلما أنه قديم نوعًا ما فهذا يحتاج من يعرف أساسيات الإطار حتى يفهم ما الذي تغير.. ومع ذلك كتاب مهم وفيه شمولية على أمور الإطار التي قد يغفل عنها مبرمج لارافل.

        Liked by 1 person

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s