بات من العادة أخذ الكُتُبِ بسطحيّة معيّنة، ولا يُقصد هنا أيّ كتابٍ محدّد، أو شكل الكتاب –ورقًا أو بكسل– أو كلماتٍ في سطور على صفحات فصوله. وبالنسبة للكتب غير الخياليّة، على الأقل، فهناك ذلك الافتراضٌ الضمني الذي يقول: يرتشف النّاس المعرفة من خلال قراءة الجمل. إنّ هذه الفكرة الأخيرة تحدّد الكتاب كوسيلة أكيدة لصيد العلم بشيء من الإعتباطيّة التي يصعب اخذها كما هي، لأنه، كما سنرى، فذلك خاطئ جملة وتفصيلًا.
تخيّل معي بعض المجلدّات غير الخيالية المعروفة، كـ “الجين الأناني” (The Selfish Gene)، “التفكير السريع والبطيء” (Thinking, Fast and Slow)، “بنادقٌ وجراثيم وفولاذ” (Guns, Germs, and Steel)، إلخ. هل سبق أن برزت لكم كتبًا مثلها في محادثة، لتكتشفوا أنّكم استوعبتم ما يعادل بضع جمل منها فقط؟ سأكون صادقًا، يحدث هذا لي بانتظام. غالبًا ما تسير الأمور على ما يرام في البداية، فأشعر أنّني أستطيع رسم الأفكار الأساسيّة في ذهني، ولكن عندما يسأل أحدهم سؤالاً استقصائياً أساسياً، ينهار الصّرح الفكري على رأسي ومعه تلك الأفكار التي ظننت أنّني امتلكها. تكون هذه مشكلة في الذاكرة في بعض الأحيان، فلا يسعني تذكّر التفاصيل ذات الصلة، ولكن في كثير من الأحيان، أدرك أنّني لم أفهم الفكرة الأساسيّة أبدًا. وعلى الرّغم من أنّني كنت أعتقد بالتأكيد أنّني فهمتها عندما قرأت الكتاب، إلّا أنّني أُدرك بعدها قلّة استيعابي.
أعلم أنّني لست وحدي هنا، فعندما أشارك هذه الملاحظة مع الآخرين – حتى الآخرين مثلي، الذين يأخذون العلم على محمل الجدّ – يبدو أنّ كلّ شخصٍ قد مرّ بتجربة مماثلة. غالبًا ما تبدو المحادثة كاعترافٍ بخطيئة، فهناك بعض الخجل، كما لو أنّ هذه الهفوات تكشف عن عيبٍ غير عادي في شخصيّة القارئ، ولكنني لا أعتقد أنّه عيبٌ في الشخصيّة، ومهما كان، فهو بالتأكيد ليس أمرًا غير عادي. أظنّ أنّ هذه هي التجربة الافتراضية لمعظم القرّاء في الواقع، فالموقف محرجٌ فقط لأنّه من الصّعب رؤية مدى شيوعه.
إنّ الكتب التي سمّيتها ليست استثمارات صغيرة، إذ يستغرق كلٌّ منها حوالي 6 إلى 9 ساعات للقراءة. يقرأ خرّيجو الجامعات الأمريكية البالغون 24 دقيقة يوميًا في المتوسط، لذلك قد يقضي القارئ العادي معظم الشّهر مع أحد هذه الكتب. لقد قرأ الملايين من الأشخاص كلًا من هذه الكتب، ممّا يعادل عشرات الملايين من السّاعات. وفي مقابل كل هذا الوقت، ما مقدار المعرفة التي استوعبوها؟ وكم عدد الأشخاص الذين استوعبوا معظم المعرفة التي قصد المؤلّف نقلها؟ أو حتى كمّ المعلومات الذي أراد القرّاء الحصول عليه فقظ؟ أظنّ أنّ من نجحوا في ذلك أقلّية صغيرة.
أنا لست بصددِ ترجيحِ أنّ كل تلك السّاعات ضاعت سدى. استمتع العديد من القراء بقراءة تلك الكتب، وهذا رائع! من المؤكد أنّ معظم القراء استوعبوا شيئًا، مهما كان غير قابل للوصف: من وجهات النّظر، وطرق التفكير، والمعايير، والإلهام، وما إلى ذلك. وفي الواقع، بالنسبة للعديد من الكتب (وخاصة معظم القصص الخيالية)، فإن هذه المُخرجات هي الهدف أصلًا.
لا يتعلّق هذا المقال بذلك النّوع من الكتب، بل يتعلّق الأمر بالتفسير غير الخيالي الذي في الكتب التي ذكرتها أعلاه، والتي تهدف إلى نقل المعرفة التفصيليّة. قد يكون بعض النّاس قد قرأوا “التفكير السريع والبطيء” للترفيه، ولكن في مقابل عشرات الملايين من الساعات الجماعيّة، أظن أنّ العديد من القرّاء – أو ربما معظم حتى – قد منّوا أنفسهم بأكثر من المتعة فقط، وإلا فلماذا نشعر بالدهشة عندما نلاحظ مدى ضآلة استيعابنا لما قرأناه؟
إنّ كل هذا يشير إلى استنتاج غريب: كوسيط، تبدو الكتب سيّئة بشكلٍ مدهش في نقل المعرفة، ولا يدرك القرّاء ذلك في الغالب.
إنّ الاستنتاج غريبٌ لا محالة، لأن الكتب عبارة عن أدواتٍ قويّة تحملُ كنوزًا من المعرفة! في حلقة كوزموس (كون)، المُعنونة بـ”ثبات الذاكرة”، يشيد كارل ساجان (Carl Sagan) بالكتاب فيقول:
ما أعجب الكتاب! إنّه جسمٌ مسطّحٌ مصنوعٌ من شجرة بأجزاء مرنة مطبوع عليها الكثير من الخربشات الداكنة والمضحكة، لكن بنظرة واحدة إلى ذلك ستجد أنك داخل عقل شخص آخر، ربّما شخصٌ قد مات منذ آلاف السنين. عبر آلاف السنين تلك، يجلس مؤلّفٌ متحدّثًا بوضوح وصَمْتْ داخل رأسك. ربما تكون الكتابة أعظم الاختراعات البشريّة، بالفعل، فهي تربط بين النّاس الذين لم يعرفوا بعضهم البعض، مواطنين من عصور بعيدة. تكسر الكتب قيود الزّمن، فهي دليلٌ على أنّ البشر قادرون على السّحر.
إنّ الكُتُبَ سحرٌ بلا شكّ! يوضّح التقدّم البشري في عصر الاتصال الجماهيري أنّ بعض القرّاء يستوعبون المعرفة العميقة من الكتب، بالفعل – في بعض الأوقات على الأقل – فلماذا تبدو الكتب مفيدة لبعض النّاس في بعض الأحيان، إذن؟ ولماذا يفشل الوسيط عندما تفشل هي؟
سوف نستكشف في هذه الملاحظات الموجزة لماذا لا تنجح الكتب في رسالتها في كثير من الأحيان، ولماذا تنجح في أحيان أخرى. لن نلقي نظرة حول كيفيّة تحسين الكتب كوسيط، فقط، بل أيضًا كيف يمكننا نسج أشكالٍ جديدة وغير مألوفة – ليس بالورق أو أي شيء آخر – بل برؤى حول الإدراك البشري.
وما الخطب مع المحاضرات؟
لقد كنّا نناقش الكتب حتى الآن، ولكن هل سبق لكم أن مررتم بنفس النوع من الشعور بالضياع مع محاضرة؟ من السهل أن تحضر محاضرة وتشعر أنّك تفهم، فقط لتكتشف خلال مجموعة إشكاليّاتٍ تلك الليلة أنك لم تفهم سوى القليل جدًا. وقد تُلام الذاكرة بعض الشّيء، فقد تشعر أنّك تعرف تفاصيل معيّنة في وقت واحد، لكنك نسيت. ومع ذلك، لا يمكننا تثبيت كل هذا في ذاكرتك. عندما تسحب خيوطًا معيّنة من المحاضرة، قد تكتشف أنك لم تفهم حقًا، على الرغم من أنّك اعتقدت أنّك فهمت كلّ شيء أثناء المحاضرة.
ربما تكون قد استوعبت فكرة أنّ المحاضرات بها هذه المشكلة، حتى لو كان الادّعاء الموازي للكتب يبدو أكثر غرابة. وألا تبدو صورة المعلّم هذه كأنها مبتذلة؟
يتحدّث السيّد جونسون في فصله لمدة ساعة كل يوم، معتقدًا أنّ طلّابه قد استوعبوا كل كلمة، ثم يتساءل لماذا كانت درجات اختبارهم سيّئة للغاية.
يمكن أن تكون المحاضرات مسلّية أو مؤثرة مثل الكتب؛ ومثل الكتب، قد يبدو أنّ المحاضرات تشتغل بشكلٍ جيّد… في بعض الأحيان، لبعضٍ من الناس، لكنكم ربما لا تعتقدون أنّ المحاضرات وسيلة موثوقة لنقل المعرفة.
لا تعمل الكتب للسبب نفسه الذي لا تعمل لأجله المحاضرات، فلا يوجد لدى الوسيطين أيّة نظريّة صريحة حول كيفية تعلم الناس للأشياء بالفعل، ونتيجة لذلك، تطوّر كلا الوسيطين عِرِضِيًّا (وغالبًا بشكل غير مرئي) حول نظريّة خاطئة بشكل واضح.
ولتوضيح ما أعنيه، سأحاول الاستفادة من خبرات التّعليم الخاصة بكم. ربما تكونون قد اكتشفتم أنّ بعض الاستراتيجيات تساعدكم على استيعاب الأفكار الجديدة، على غرار حلّ المشكلات الشيّقة، وكتابة ملخصّات الفصول، والقيام بمشاريع إبداعيّة، وهلم جرًّا. مهما كانت الاستراتيجيّات التي تفضّلونها، فهي ليست سحريّة. يوجد سببٌ لكونها ناجحة (عندما تنجح بالفعل)، فهي تستفيد من بعض الحقائق الأساسيّة حول إدراككم – حول طريقة تفكيركم وتعلّمكم. في كثير من الحالات، لا تتعلّق الحقيقة بإدراككم فحسب، بل تتعلّق بالإدراك البشري بشكل عام.
لو جمعنا ما يكفي من هذه “الحقائق” الأساسيّة، فقد تظهر بعض الموضوعات المشتركة، مما يقترح نظرية أكثر تماسكًا حول كيفية حدوث علميّة التعلّم. سوف نطلق على مثل هذه النظريّات اسم نماذج معرفيّة. تقترح بعض استراتيجيّات التعلّم نفس النموذج، ويقْتَرِحُ أخرون نماذج متضاربة، فبعض تلك النّماذج قابلة للاختبار تجريبياً، أمّا البعض الآخر فليس كذلك. لا يزال من المعروف بالفعل أنّ البعض الآخر زائف، فمن خلال التركيز على هذه النماذج، وبدلاً من مجموعة من الاستراتيجيّات مرّة واحدة، يمكننا البحث عن المزيد من الآثار العامّة. يمكننا أن نسأل التالي: إذا أخذنا نموذجًا معرفيًا معيّنًا على محمل الجدّ، فما الذي يؤكّد لنا أنه سيساعدنا (أو العكس) على فهم شيء ما؟
إنّ هذا سؤالٌ مهمٌّ لأنه من الصّعب نقلُ المعرفة. لا يستوعب معظم الحاضرين في المحاضرة المعرفة المقصودة، ومعظم قرّاء الكتاب لا يستوعبون المعرفة المقصودة أيضًا، لذلك فإنّ الفشل في الاستيعاب هو المُفترض. إذا كنت تأمل في مساعدة الآخرين على فهم الأشياء، فمن الأفضل أن تستفيد من بعض الأفكار الرّائعة حول كيفية تعلّم الناس. سيكون من الرّائع لو لم يكن هذا صحيحًا. سيكون من الجيّد أن يشرح المرء فكرة ما بوضوح لشخص آخر، ثم يثق في أنّه قد فهمها. لسوء الحظّ، كما رأيتم في الفصول الدراسيّة غالبًا وفي حياتكم الخاصّة، فنادرًا ما تُفهم الأفكار المعقّدة تلقائيًا.
إنّ المحاضرات – كوسيلة – لا تحتوي على نموذجٍ معرفي مدروس بعناية في مؤسّستها. ومع ذلك، إذا كنا أجانب نراقب محاضرات نموذجيّة عن بعد، فقد نلاحظ النّموذج الضمني الذي يبدو أنّها تشترك فيه: “يقول المحاضر كلمات تصف فكرة؛ يسمع الفصل الكلمات ويخربش في دفتر ملاحظاته؛ ثم يفهم الفصل الفكرة”. في علوم التعلّم، نطلق على هذا النّموذج اسم “التلقين” (“Transmissionism“). إنّها فكرة أنّ المعرفة يمكن أن تُرسَلَ مباشرة من المعلّم إلى الطالب، كنسخ النصّ من صفحة إلى أخرى، ويا ليت الأمر كان كذلك! لقد فقدت الفكرة مصداقيتها تمامًا لدرجة أنّ مصطلح “التلقين” يستخدم بشكلٍ ازدرائي، في إشارة إلى ممارساتِ التدريسِ التاريخيّة السّاذجة، أو الشخصنة في المشاحنات الأكاديميّة الفاضحة.
لا يعتقد المحاضرون الجيّدون أنّ مجرّد إخبار جمهورهم بفكرة ما يجعلهم يفهمونها عادةً، بل إنّها مجرّد محاضراتٍ، كتنسيقٍ، يتم تشكيلها كما لو كان ذلك صحيحًا، لذلك يتصرّف المحاضرون في الغالب كما لو أنّ الأمر كذلك.
إذا تم الضغط عليهم، فسيقدّم العديد من المحاضرين نموذجًا إدراكيًا أكثر منطقية. يأتي الفهم في الواقع بعد المحاضرة، عندما يَحُلُّ الحاضرون مجموعاتٍ من الإشكاليّات، ويكتبون المقالات، وما إلى ذلك. توفّر المحاضرة المعلومات الأوّلية لتلك الأنشطة اللاحقة. عظيم: هذا نموذج حقيقي، وأجزاء منه مدعومة بالعلوم المعرفيّة، ولو بدأنا بهذا النّموذج، فهل كنا سنختار خطاباتٍ مباشرةٍ مدّتها تسعون دقيقة لنقل المعلومات الأوليّة لمجموعة الإشكاليّات هذه؟
يتشتّت انتباه المستمعين بعد بضع دقائق، ألا نرغب في تشبيك جلسات حلّ الإشكاليّات مع المحاضرة؟ لا يمكن إيقاف الخطب الحيّة مؤقتًا أو إعادتها، لذا ألا يجعلها ذلك عرضة لإفقاد بعض الأفكار الأساسيّة؟ يمكن للناس أن يقرؤوا أسرع بكثير مما يتكلّم به المحاضر، لذا ألا يكون النصّ أكثر كفاءة هنا؟ وهكذا… إنّه لمن الواضح بالفعل أنّ تنسيق المحاضرة التقليدي لا يناسب هذا النموذج.
إنّ نموذج المحاضرات كإحماء هو تبرير منطقي، لكنه يشير إلى نظريّة عميقة حول الإدراك: لفهم شيء ما، يجب أن تتفاعل معه بنشاط. يعتبر هذا المفهوم، إذا أخذناه على محمل الجد، سيغيّر الفصول الدراسية تمامًا. كنا نعطي الأولويّة للأنشطة مثل المناقشات التفاعلية والمشاريع. سننشر التعليمات المباشرة فقط عندما تكون أفضل طريقة لتمكين هذه الأنشطة. أنا لا أفكر في التكهّن: على مدى العقود القليلة الماضية، كان هذا أحد القوى التطورية المركزية في سياسة وممارسات الولايات المتحدة من رياض الأطفال وحتى التعليم الثانوي.
باختصار، تعدّ المحاضرات عقيمة لأن الوسيط يفتقر إلى نموذج معرفي فعال. إنها (ضمنيًا) مبنية على فكرة خاطئة حول كيفية تعلم الناس – التلقين – والتي يمكننا تصويرها بشكل كاريكاتوري حيث يقول المحاضر كلمات تصف فكرة. يسمع الطلاب الكلمات. ثم يفهمونها. عندما تنجح المحاضرات، فهي بشكل عام كجزء من سياق تعليمي أوسع (مثل المشاريع، ومجموعات الإشكاليّات) مع نموذج معرفي أفضل، لكن المحاضرات لم تثقل كاهلها. إذا أردنا حقًا اعتماد النموذج الأفضل، فإننا نتخلى عن المحاضرات، وبالفعل، هذا ما يحدث في التّعليم من رياض الأطفال وحتى التعليم الثانوي في الولايات المتحدة.
من خلال إعداد حدسنا من خلال المحاضرات، سنرى أن الكتب، كوسيط، تعكس نفس الأفكار المعيبة حول كيفية تعلّم الناس.
وما الخطب مع الكتب؟
مثل المُحاضرات، لا تحتوي الكتب على نموذجٍ معرفي مدروس بعناية في مؤسّستها، لكن لها نموذجٌ ضمني. ومثل المحاضرات، هذا النموذج هو التلقين. يشير شكلُ الكتاب إلى أن الناس يرتشفون المعرفة من خلال قراءة الجمل. في الكاريكاتير، يصف المؤلّف فكرة بكلمات على صفحة، يقرأ القارئ الكلمات، ثم يفهم الفكرة. وعندما يصل القارئ إلى الصّفحة الأخيرة، يكون قد أنهى الكتاب”. بالطبع، لا يعتقد معظم المؤلفين أن النّاس يتعلّمون الأشياء بهذه الطريقة، ولكن نظرًا لأن الوسيط يجعل الافتراض غير مرئي، فمن الصّعب التساؤل عن ذلك أيضًا.
مثل المحاضرين، يقدّم العديد من المؤلّفين نموذجًا إدراكيًا أكثر منطقيّة عند الضّغط عليهم. لا يمكن للقرّاء قراءة الكلمات فقط، بل عليهم أن يفكّروا في معانيها حقا، وربما يدوّنون بعض الملاحظات، أو يناقشون مع الآخرين، أو يكتبون مقالًا. ومثل المحاضرة، فالكتاب كالإحماء للتفكير الذي يحدث لاحقًا. رائع، هذا نموذجٌ أفضل إذن! دعونا نلقي نظرة على كيفية عمله.
لقد أقررت سابقًا أنّ بعض الناس يمتصّون المعرفة من الكتب. إنّ هؤلاء هم الأشخاص الذين يفكرّون فيما يقرؤونه. غالبًا ما تكون العملية غير مرئيّة، فإنّ هؤلاء القرّاء لهم أصواتٌ في داخلهم أثناء القراءة، تشبه: “تذكرني هذه الفكرة بـ…”، “تتعارض هذه النقطة مع…” ، “أنا لا أفهم حقًا كيف…”، إلخ. إذا أخذوا بعض الملاحظات، فهم لا ينسخون كلماتِ المؤلّف، بل يلخّصون الكتاب ويربطون بين أفكاره ويحلّلونه.
لا تأتي هذه التكتيكات بسهولة، لسوء الحظ، فيجب أن يتعلّم القرّاء استراتيجيّاتٍ انعكاسيّة محدّدة. “ما هي الأسئلة التي يجب أن أطرحها؟ كيف يمكنني تلخيص ما أقرأه؟ يجب على القرّاء تشغيل حلقات التغذية الراجعة الخاصة بهم: “هل فهمت ذلك؟ هل يجب أن أعيد قراءتها؟ هل تريد استشارة نصٍّ آخر؟” كما يجب أن يفهم القرّاء إدراكهم الخاص: “ما هو شعورك عند فهم شيء ما؟ أين هي النّقاط المبهمة لدي؟”
تقع هذه المهارات في خانة تسمّى في علوم التعلّم “ما وراء المعرفة”. تشير الأدلّة التجريبيّة إلى أنه من الصعب تعلّم هذه الأنواع من المهارات، وأنّ العديد من البالغين يفتقرون إليها (Baker, L. 1989). ولعلّ الأسوأ من ذلك أنّه حتى لو عرف القرّاء كيفية القيام بكل هذه الأشياء، فإن العمليّة مرهقة للغاية، إذ يجب عليهم التوفيق بين كل من محتوى الكتاب وأيضًا كل هذه الأسئلة الوصفيّة. يكافح الأشخاص بشكلٍ خاص للقيام بمهامٍ متعدّدة مثل هذه عندما يكون المحتوى غير مألوف (Langer A.J., & Nicolich, M., 1981; Baker, L. & Brown L., 1984).
أين الكتب من كلّ هذا؟ إذا كنا نعتقد أنّ القراءة الناجحة تتطلب التركيز في كل هذا ما وراء المعرفة المعقد، فكيف ينعكس ذلك على الوسيط؟ وما الذي يفعله هذا الأخير للمساعدة؟
بطبيعة الحال، يرغب المؤلفون العظماء في أن يفكر القراء جيدًا في كلماتهم. يشكّل هؤلاء المؤلّفون صورًا متطوّرة لمفاهيم قرائهم المتطورة. إنهم يتوقعون التباسات قد تكون لدى القراء، ثم يقومون بتشكيل نثرهم للاعتراف بهذه القضايا والتخفيف من حدّتها. هم يتّخذون خياراتٍ مستمرّة حول العمق والتفاصيل باستخدام هذه النماذج، ويقترحون معرفة الخلفيّة التي قد تكون مطلوبة لبعض المقاطع يمكن إيجادها.
من خلال تحمّل بعض القرّاء للمراقبة الذاتية والتنظيم، يمكن لجهود هؤلاء المؤلّفين تخفيفُ عبء ما وراء المعرفة بالفعل، غير أنّ ما وراء المعرفة هو عمليّة ديناميكيّة بطبيعتها، تتطوّر باستمرار مع تطوّر مفاهيم القراء، أمّا الكتب فهي ثابتة. يمكن للنثر أن يؤطر أفكار القراء أو يحفزها، لكن النثر لا يمكنه التصرف أو الاستجابة لتلك الأفكار عندما تتكشف في عقل كلّ قارئ. يجب على القارئ أن يخطّط ويوجّه حلقات التغذية الراجعة الخاصة به. إذا كان المحاضرون يعتقدون أنّ المحاضرات هي عمليّة إحماءٍ للفهم الذي تم تطويره من خلال مجموعات الإشكاليّات والمقالات، فإنّ المحاضرين مطالبون بتصميم تلك الأنشطة وتقديم ملاحظاتٍ حول عمل الطلّاب على الأقل. إذا اعتقد المؤلّفون أنّ الفهم لا يأتي إلا عندما يفكّر القرّاء حقًا في كلماتهم، فإنهم يتركون القرّاء إلى حدٍّ كبير لتصميم “مجموعات المشكلات” الخاصّة بهم وإنشاء ملاحظاتهم الخاصة. يتنافس كل هذا “التفكير في التفكير” المجهد مع التفكير الفعلي في أفكار الكتاب (لقد أفرطت في التبسيط هنا قليلاً، ففي الواقع، يعدّ هذا النوع من المعالجة للمواد – من تصميمٍ للأسئلة الخاصّة بالفرد وتوليد التعليقات الخاصة به – استراتيجيات معرفية فعالة. ولكن بقدر ما يفهمه تعلم العلوم، فهي فعالة فقط للأشخاص الذين يتقنون بالفعل كل من المفاهيم على مستوى الأشياء وكذلك المهارات ما وراء المعرفية ذات الصلة. بالنسبة للآخرين، يبدو أن هذه الأنشطة تقلّل من فهم المادة. راجعو هذا المثال).
إذا كان النموذج هو أنّ الناس يفهمون الأفكار المكتوبة من خلال التفكير فيها بعناية، فكيف ستبدو الكتب لو بنيت حول مساعدة النّاس على القيام بذلك؟
ماذا عن الكتب المدرسية؟
أليس هذا ما تفعله الكتب المدرسية؟ هل يمكننا طرح بعض التمارين وأسئلة المناقشة حول كتاب الجين الأناني، مثلًا؟ لا تبدو القراءة ممتعة تمامًا، لكن هل ستنجح؟
خلافَ معظم الكتب غير الخياليّة، عادةً ما تبنى الكتب المدرسيّة حول نماذج معرفيّة صريحة. على سبيل المثال، غالبًا ما تتناوب هذه الكتب بين التفسيرات التي تقدّم المفاهيم، والتمارين التي تدفع الطلّاب إلى التفكير في هذه المفاهيم بطرق محدّدة. إنّه لأمرٌ رائعٌ أنّ الكتب المدرسيّة لم تختر نماذجها المعرفيّة عن طريق الصّدفة، فهذه خطوة أولى مهمّة. لكن هذا ليس كافيًا، فلا يزال النّاس يكافحون لاستيعاب المعرفة من الكتب المدرسيّة بشكلٍ موثوق.
سأقوم الآن بإثبات أنّ الكتب المدرسيّة لا تنفذ بفعالية نماذجها الخاصة حول كيفية تعلّم الناس… وحتى لو فعلت ذلك، فإنّ نماذج الكتب المدرسيّة تهمل الأفكار المهمّة حول كيفية تعلّم النّاس.
لنبدأ بحثنا بالنظر في الكتب المدرسية بشكلٍ عملي. من اللافت للنظر أن الدورات الأكاديمية غالبًا ما تتمحور حول الكتب المدرسيّة، ولكن الكثير من الأشخاص يقضون وقتًا ومالًا إضافيين للتسجيل في تلك الدورات – بدلاً من مجرّد دراسة الكتب المدرسية بشكل مستقل. أظنّ أنّ الكتب المدرسيّة يتم شراؤها في الغالب للمناهج الدراسيّة، وليس للدراسة الذاتية. ربّما يأخذ بعض الأشخاص دوراتٍ لأنهم يريدون شهادة، ولكن يشعر الكثير من الطلّاب أنّهم سيتعلّمون من خلال أخذ الدورات أكثر مما سيتعلمون من خلال دراسة الكتب المدرسية لتلك الدورات. ولو افتراضنا أنّ مشاعر الطلّاب ليست في غير محلها تمامًا، فسيتوجّب أن تقدّم الدورات شيئًا إضافيًا مهمًا لكيفية تعلّم الأشخاص.
لقد رأينا سابقًا كيف ترك النّموذج المعرفي العرضي للكتب الواقعية القراء يقومون بكل الأعمال ما وراء المعرفية من تخطيطٍ وتنفيذٍ ومراقبةٍ لتفاعلهم مع أفكار الكتاب. تحتوي الكتب المدرسية – على النقيض من ذلك – على نماذج معرفيّة واضحة، فهي تدعم المشاركة في مفاهيمها من خلال أشياء مثل التمارين وأسئلة المناقشة. ومع ذلك، فإن الكثير من عبء ما وراء المعرفة يبقى على عاتق القارئ.
يجب أن يقرّر القرّاء ما هي التمارين التي يجب القيام بها ومتى، ويجب على القرّاء تشغيلُ حلقاتِ التقييم الخاصّة بهم: هل فهموا بوضوحٍ الأفكار التي ينطوي عليها التمرين؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا سيفعلون بعد ذلك؟ ماذا يجب أن يَفْعَلَ الطلّاب إذا كانوا عالقين تمامًا؟ إنّ بعض القضايا أكثر دقة، فعلى سبيل المثال، غالبًا ما تُصمّم تمارين الكتب المدرسيّة لتقديم حلٍّ لهذه المشكلة المحدّدة ورؤى أوسع حول الموضوع كذلك. هل سيلاحظ القرّاء ما إذا كانوا قد حلّوا مشكلة ما لكن فاتتهم الأفكار التي كان من المفترض أن تكشف عنها؟
وعلى النقيض من ذلك، تتعامل الدوراتُ التدريبيّة مع الكثير من هذا العبء ما وراء المعرفي. تقدّمُ المناهج الدراسيّة الخاصّة بهم نطاقًا وتسلسلًا مجدولين، لذلك يحتاج الطلّاب إلى تخطيطٍ أقلّ. يتلقى الطلّاب ملاحظات حول التمارين – عمومًا – سواء كان ذلك بشكل فردي أو من خلال المناقشة على مستوى الفصل. إذا كان الطلّاب عالقين، فيمكنهم حضور ساعاتٍ العمل لتلقي مساعدة أدقّ. يمكن للمدربين مناقشة الآثار المترتبة على تمارين الأسبوع الماضي في الفصل. لا تقوم الدورات بأيً من هذا بشكلٍ مثالي بالتأكيد، فلا يزال الكثير من الطلّاب غير قادرين على استيعاب أيّ شيء في الفصل، ولكن من خلال إزاحة بعض الجهد الـ ما وراء معرفي، تحافظ الدورات على المزيد من انتباه الطلّاب للمادة نفسها.
من شأن السّرد النموذجي في تكنولوجيا التعليم أن يلاحظ كيف يمكن لأنظمة التعلم القائمة على الذكاء الاصطناعي أن تقدم ملاحظات تلقائية وتخطيط مهام خارج الفصل الدراسي في هذه المرحلة. كان هناك تقدّمٌ مثيرٌ للاهتمام في هذا المجال، ويمكن لهذه الأساليب تحسين الكتب المدرسيّة، بالفعل، ولكن هذه الأنظمة تركّز بشكلٍ عام على نظرة ضيّقة وموجّهة نحو المهام لما يحدث في الفصول الدراسيّة. تقدّم الدورات الأكاديمية أكثر من مجرّد دعمٍ ما وراء معرفي للكتب المدرسيّة، فنموذجهم المعرفي اجتماعي وعاطفي أيضًا.
فعلى سبيل المثال، تدعم المناقشات الصفّية التعلم الاجتماعي، فيفهم الطلاب الموضوعات بشكل أعمق من خلال التعامل مع فهم أقرانهم للأفكار نفسها. يمكن أن توفّر الدورات علاقة شخصيّة مع خبير تأديبي، وهي قناة غنيّة للوصول إلى ثقافة الانضباط – وقد يكون الكثير منها ضمنيًا. بالنسبة للعديد من الطلاب، تقدّم الدورات التدريبيّة هيكلًا مفيدًا للمساءلة، وتلعب دورًا أهمّ في دعم قوّة إرادتهم.
تقدم الدورات ظهورًا عاطفيًا، مما يحفّز عمليّة التعلّم ويزيد من رقعتها، فقد تكون المحاضرات الحيّة غير فعّالة، لكن سحر المعلّم الواضح يمكن أن يترك انطباعًا دائمًا. إنّ نفس هذه المشاعر تشبع أفضل نثرٍ غير خيالي، لكن الكتب المدرسيّة تهمل الارتباط العاطفي بشكل عام. يلهم نثرها اللامبالاة أكثر من التساؤل، ونظرًا لأنها تفتقر عادةً إلى صوت مؤلّف، وبسبب هوسها بالتقييم، فقد أنتجت أنظمة التدريس المحوسبة أعمالًا مع مراعاة أقل للشفقة إلى حد كبير.
لقد رأينا في هذا القسم أنه، مثل المحاضرات، فالكتب الواقعية تفشل بسبب افتقارها إلى نموذجٍ معرفي فعال. بدلاً من ذلك، ومثل المحاضرات، فهي (بمصادفة وبشكل غير مرئي) مبنيّةٌ على فكرة خاطئة حول كيفية تعلّم الناس: التلقين. عندما تنجح الكتب، فذلك راجعٌ عمومًا للقراء الذين ينشرون ما وراء المعرفة بمهارة للتفاعل بفعالية مع أفكار الكتاب. إنّ هذا النوع من ما وراء المعرفة غير متوفّر للعديد من القرّاء ويفرض ضرائب على البقيّة. إنّ الكتب لا تسحب ثقلها. تقوم الكتب المدرسية بتقديم المزيد من المساعدة، لكنها لا تزال تفرض معظم العناصر ما وراء المعرفيّة على القارئ، وتتجاهل العديد من الأفكار المهمّة حول كيفية تعلّم النّاس.
ما العمل؟
كيف يمكننا جعل الكتب تعمل بشكل موثوق؟ في هذه المرحلة، قد يبدو المنحدر أمامنا أكثر حدّة، وقد تكون بعض مواطئ القدم مرئيّة – كبعض التحسينات المحتملة على قراءة الكتب أو الأدوات التي قد يقوم بها المرء لمساعدة القراء – ولكن لن يكون واضحًا على الإطلاق كيفيّة الوصول إلى القمّة. يجدر طرح السؤالين التاليين في مواجهة مثل هذا اللّغز: هل نحن بصدد تسّلق التلّ الصحيح؟ ولماذا نتسلق هذا التلّ بالذات؟
لقد جادلنا سابقًا أنّ الكتب – كوسيط – لم تُبنى حول أيّ نموذج واضحٍ لكيفية تعلّم الناس. من الممكن، على الرغم من هذه “الخطيئة”، أنّ التحسينات التكراريّة للنموذج، بالإضافة إلى الأدوات الجديدة لدعم القرّاء، يمكن أن تجعل الكتب أكثر موثوقيّة، ولكن من الممكن أيضًا ألا نكتشف أبدًا الرؤى التي نحتاجها أثناء ربطنا بأنماط التفكير الضمنيّة في هذه الوسيلة.
وبدلاً من ذلك، فإنّنا نقترح أنّه ليس بالضرورة بمكان أن نجعل الكتب تشتغل بالشكل الذي نريد. يمكننا صنع أشكالٍ جديدة بدلاً من ذلك، وهذا لا يعني التخلّي عن النثر السّردي. لا يعني ذلك التخلي عن الورق أيضًا – فبدلاً من ذلك، يمكننا تحرير تفكيرنا من خلال التخلي عن تصوراتنا المسبقة حول ماهية الكتاب. وربما بمجرد أن ننتهي من كل هذا، سنكون قد توصّلنا إلى شيءٍ يشبه الكتاب إلى حدٍّ كبير. سنجد مسارًا لطيفًا حول الجزء الخلفي من هذا المنحدر المُرعب، أو قد ينتهي بنا الأمر ربّما باكتشاف تضاريس مختلفة تمامًا عن التي وضعنا أنفسنا فيها.
لذلك دعونا نعيد صياغة السّؤال. بدلاً من “كيف يمكننا أن نجعل الكتب تشتغل بشكل موثوق فعليًا”، يمكننا أن نسأل: كيف يمكننا تصميم الوسائط التي تؤدّي وظيفة الكتاب الواقعي – ليعمل بشكل موثوق بالفعل؟
أخشى أن يكون هذا سؤال بحث – ربّما لعدة سنوات من البحث – ليس شيئًا يمكنني الإجابة عليه مباشرة في هذه الملاحظات الموجزة، بيد أنّني أعتقد أنّ هذا ممكن، وسأحاول الآن أن أشارككم لماذا.
بادئ ذي بدء، من المهم أن نرى أنّ الوسائط قد تصمّم، فهي ليست مجرّد أدواتٍ مُتوارَاثة. علاوة على ذلك، من الممكن تصميم وسائط جديدة تجسد أفكارًا محددة. لقد اعتمد المخترعون منذ فترة طويلة على هذه الرؤية غير البديهية (راجعوا على سبيل المثال قدم دوجلاس إنجلبارت عام 1962 بعنوان “زيادة الفكر البشري” لمصدر أساسي كلاسيكي أو “الفكر كتكنولوجيا” لمايكل نيلسن 2016 لتجميع الكثير من العمل في هذا المجال.)، لكنني سأراجعها بإيجاز في حال كانت غير مألوفة. إنّ البراهين الرياضية هي وسيط، يجسّد الهيكل التدريجي أفكارًا قوية حول المنطق الرسمي. إنّ خاصّية “الستوري” على السنابشات هي وسيط كذلك، فتجسّد سرعة زوالها أفكارًا قوية حول العاطفة والهويّة. وشبكة الويب العالمية هي وسيط (أو ربما العديد من الوسائط)؛ تجسّد الارتباطات التشعبيّة المنتشرة أفكارًا قويّة حول الطبيعة الترابطيّة للمعرفة.
ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه هو أنّ الأفكار القويّة غالبًا ما تكون غير مرئيّة، فليس الأمر كما لو كنا نفكّر في الإدراك عمومًا عندما ننثر مشاركة مدونة تحتوي على روابط، لكن الأشخاص الذين أنشأوا الشبكة كانوا يفكرون في الإدراك. لقد صمّموا اللّبنات الأساسيّة الخاصّة بها بحيث تعكس الطريقة الطبيعية للقراءة والكتابة الأفكار القويّة التي كانت في أذهانهم. إنّ حقيقة ما إذا كان تشكيلها قد تمّ عن قصدٍ، أم لا، لا يخفي أّنّ مواد وقيود ذلك الوسيط الأساسية تمنحه “خصلة” تجعله ينحني بشكل طبيعي في بعض الاتجاهات غير الأخرى.
إنّ هذه “الخصلة” هي ما يدفعني للأمام عندما أشعر بالانزعاج من كون الكتب تفتقر إلى نموذج معرفي فعّال. لا يقتصر الأمر على أنّه من الممكن إنشاء وسيط بأفكار معيّنة في العلوم المعرفية، فبدلاً من ذلك، من الممكن نسج وسيط مصنوع من تلك الأفكار، حيث تتشكل أفكار وأفعال القارئ بشكل حتمي – وربما غير مرئي حتى – من خلال تلك الأفكار. لا تأخذ البراهين الرياضيّة، كوسيط، في الاعتبار الأفكار حول المنطق فقط، لأنّنا لا نرفق الأفكار حول المنطق بالبراهين. إنّ النموذج مصنوعٌ بأفكارٍ حول المنطق.
كيف يمكننا تصميم وسيطٍ بحيث تنحني “خصلاته” بما يتماشى مع طريقة تفكير الناس وتعلّمهم؟ وذلك ببساطة عن طريق الانخراط في عمل المؤلّف من كلّ جوانبه. فكيف سيفعل المرء ما هو ضروري لفهمه؟ وحتى تكون الإجراءات وأنماط التفكير الافتراضية عند التعامل مع هذا الوسيط هي نفس الشيء كقول “ما هو الشّي ضروري فهمه”؟
تعدّ هذه مهمّة صعبة، فحتى على المستوى النظري، ليس من الواضح ما هو ضروري للفهم. وفي الواقع، إنّ هذا التأطير ضيّقٌ للغاية، فهناك العديد من المسارات لفهم الموضوع، لكن العلماء والمعلمين المعرفيين رسموا خرائط لبعض أجزاء هذا الفضاء، وقاموا بتلخيص بعض الأفكار القويّة التي يمكننا استخدامها كنقطة انطلاق.
على سبيل المثال، يكافح الأشخاص لاستيعاب مواد جديدة عندما تكون ذاكرتهم العاملة مثقلة بالفعل، فإذا كنت قد تعرّفت للتو على عدد كبيرٍ من المصطلحات الجديدة، فمن المحتمل أنّك لن تستوعب الكثير من الجمل التي تستخدم العديد من هذه المصطلحات في وقت واحد. لذلك ربما يكون جزءًا من “ما هو ضروري للفهم” هو أن معظم متطلّباته الأساسية يجب ألا تكون مألوفة فحسب، بل يجب أن تكون قابلة للاستعمال بطلاقة ومشفّرة في الذاكرة طويلة المدى.
لمساعدة الناس على ترميز المزيد في الذاكرة طويلة المدى، يمكننا الاعتماد على فكرة قوية أخرى من العلوم المعرفية: التكرار المتباعد. من خلال إعادة اختبار نفسك على المواد التي تعلمتها من خلال توسيع الفواصل الزمنيّة، يمكنك تخصيص كمّياتٍ هائلة من المعلومات بشكل رخيص وموثوق به في الذاكرة طويلة المدى – لمراجعة الآثار العملية لهذا التأثير، راجع “زيادة الذاكرة طويلة المدى” لمايكل نيلسن. لمزيد من الأدلة التجريبية، تعد هذه المراجعة التي أجراها ديفيد بالوتا وزملاؤه نقطة انطلاق جيّدة. وممّا لا شكّ فيه أنّ الذاكرة ليست سوى جزء صغير من “الفهم”، ولكن لتوضيح كيف يمكن للمرء أن يبدأ في معالجة الفهم ككل، دعونا نستكشف كيف يمكننا نسج وسيطٍ من هاتين الفكرتين حول الذاكرة.
لقد قمت أنا ومعاوني مايكل نيلسن بمحاولة أولية مع كتاب “بلاد الحساب الكمّي” (Quantum Country)، وهو كتابٌ عن الحساب الكمي، لا تشبه قرائته قراءة أي كتاب آخر. نُسج النص التوضيحي بإحكام مع جلسات مراجعة تفاعلية موجزة، تهدف إلى استغلال الأفكار التي قدمناها للتو. تعني قراءة Quantum Country قراءة بضع دقائق من النص، ثم اختبار ذاكرتك بسرعة حول كل ما قرأته للتو، ثم القراءة لبضع دقائق أخرى، أو ربما العودة للخلف لإعادة قراءة تفاصيل معينة، وما إلى ذلك. تعني قراءة الكتاب أيضًا تكرار اختبارات الذّاكرة السريعة تلك في تمديد الفترات الزمنية خلال الأيام والأسابيع والأشهر التالية. إذا قرأت الفصل الأول، ثم انهمكت في اختبارات الذاكرة لديك خلال الأيام التالية، نتوقع أنّ ذاكرتك لم تتعب بشكلٍ كبير عند قراءة الفصل الثاني. علاوة على ذلك، فإن جلسات المراجعة المتشابكة ستخفّف من العبء المعرفي الذي يتم فرضه عادة على القارئ، فهي تساعد القراء على معرفة من أين تؤكل الكتف.
يعتبر هذا الكتاب مجرّد قطعة واحدة من أحجية الذاكرة، والتي هي نفسها جزء من نسيج أكبر. كيف يمكننا تصميم وسائط يشكّل فيها “القرّاء” روابط غنيّة بين الأفكار المعروضة بشكل طبيعي؟ كيف يمكننا تصميم الوسائط التي يتفاعل “القراء” معها بشكل إبداعي وطبيعي؟ كيف يمكننا تصميم وسائط يتعامل فيها “القراء” بشكل طبيعي مع التفسيرات المتنافسة؟ لو جمعنا معًا ما يكفي من هذه الأسئلة، فقد يتبقى لنا: كيف يمكننا تصميم وسائط تكون فيها “القراءة” هي نفسها “الفهم”؟ إنّ المعالجة الأكثر تفصيلاً لمثل هذا البرنامج البحثي هي خارج نطاق هذه الملاحظات الموجزة، غير أنّني أعتقد أنّ الإجابات على أسئلة مثل هذه يمكن أن تغير وتيرة المعرفة البشريّة، محاكية ذلك التحوّل الذي أحدثته الكتب نفسها منذ فترة طويلة.
شكر وعرفان من المؤلف – معلومات عن رخصة المقال والاقتباس منه والاستشهاد به.
الكاتب
آندي ماتوشاك، مهندس برمجيات، ومصمم وباحث. يعمل آندي على التقنيات التي توسّع مدارك الناس وتُمكنّهم في الأرض.
تتنوع اهتمامات آندي ما بين الحقول الأكاديمية والسيليكون فالي. ويستكشف آندي النظريات من خلال تطبيقها على أرض الواقع، ما يُنتج رؤىً يستخدمها آندي لإثبات صحة أو جدوى تلك النظريات، مما يؤدي بدوره إلى تحسين النُظم التي تسيّر الواقع وهكذا دواليك…
قبل عمله الحالي، ساعد آندي على بناء نظام آي إو إس لدى شركة آبل وترأس قسم الأبحاث والتطوير لدى أكاديمية خان. حاليًا يعمل آندي ماتوشاك بصفة باحث مستقل، يدعمه متابعوه عبر باتريون، في حال وجدتَ أعمال آندي مهمة وذات نفع، يمكنك رعاية ما ينتجه بدعمه عبر صفحته على باتريون. (ستحصل عندئذ على رؤية حصرية لكيف ينجز آندي أعماله وتحصل على ما يصنعه من محتوى قبل الجميع).
تُرجمت هذه القطعة من المحتوى بإذن كاتبه الأصلي: آندي ماتوشاك.
ترجمها للعربية: عبد القادر علي خوجة.
نُشرت لأول مرة بالعربية في مدونة يونس بن عمارة.
حقوق الصورة البارزة: Photo by Ed Robertson on Unsplash
هذا عجيب حقا! لقد بدأت في ممارسة هذه العادة قبل أشهر و خصصت دفترا لما اسميته “تحليل الكتب” و فيه اقوم بتلخيص كل فصل (من كتاب) انتهي من قرائته كما و اعادة صياغة افكار المؤلف و مناقشتها و نقدها من وجهة نظري. و قد لاحظت ان تأثير هذه العادة على قدرتي على الاستيعاب كبير جدا و قد بتّ افهم الكتاب و اتذكر نسبة كبيرة مما جاء فيه خلال الاشهر الاخيرة، و ان أبطأ ذلك سرعتي المعهودة في القراءة فالاهم هو الكيف و ليس الكم.
ملاحظة : ترجمة موفقة و لكن التدوينة طويلة جدا و قد كان بالامكان التصرف فيها و اختزال بعض العبارات.
إعجابLiked by 1 person
أهلا سارة، وأشكرك على تعليقك. المقال من ترجمة الزميل عبدالقادر وفعلًا بذل جهدًا محمودا في الترجمة. أحييه عليه.
بخصوص الاختصار نظرًا لأني اتصلتُ بصاحب المقال الأصلي وطلبت إذنه ووافق. لا يحق لي أن أتصرف في مقاله إلا بإذنه. ونظرًا لأن مناقشته فيما أختصره وما أبقيه يأخذ وقتًا آثرت أن أنفع العرب والمسلمين أولًا بالترجمة ثم الاختصار والاختزال يسهل في وقت لاحقًا
مثلا يمكنك تحويل ما استفدتِه من المقال إلى ثريد على تويتر.
إعجابLiked by 1 person