في مكتبة تاريخِ الأرض، توجد العديد من الكتب المفقودة التي تغيب داخلها العديد من الفصول؛ فصول حُفرت على صخور قد اختفت كليا الآن. وأعظم مثال على هذه الصّخور “الغابرة” هو ما لاحظه جون ويسلي باول عندما اتخذ من قاربه وسيلة مغامرة بحرية عبر الأخدود العظيم (أو غراند كانيون وهو أخدود يقع في الجزء الشمالي الغربي من ولاية أريزونا الأمريكية) سنة 1869، فقد لاحظَ وهو عائمٌ فوق وادي كولورادو بأنّ طبقات صخوره الرُّسوبية المحمرة، والتي يبلغ سُمكها قرابة الميل، تقبعُ فوق طبقات كثيرة من الصخور الرمادية غير الرسوبية بحيث لا تتناسب هذه الأخيرة مع ما فوقها. أدّت هذه الملاحظة إلى افتراضه، وبشكل دقيق وصحيح، أن الطبقات العليا لم تتكون من الطبقات السفلى لأنه قد مر بالتأكيد زمنٌ فصل بين تكوينات طبقات القاع والطبقات التي تعلوها، لكنه لم يكن يعلم تماما كم من الوقت قد مضى بين حدوث هذا وذاك، واستطاع بالكاد أن يخمن. تبين فيما بعد أن الإجابة كانت أكثر من مليار سنة وأن حوائط الأخدود العظيم لا يمكن لها أن تخبرنا بأي شيء عن تلك الفترة لكن الجيولوجيا تخبرنا أنه لا يوجد شيء جاء من لا شيء؛ بالتأكيد هناك تفسير ما.
في العقود التي تلت ملاحظات باول، عُثر على نفس النوع من الفجوة في جميع أنحاء العالم؛ وهي تسمى الآن في الجيولوجيا باللاتوافق العظيم. لا يعرف هذا العلم أي شيء عما حدث في العالم خلال تلك الفترات الزمنية التي تصل إلى 1.6 مليار سنة بسبب عدم التوافق هذا.
تنتهي كل هذه الامتدادات الزمنية فجأة بالانفجار الكامبري الذي بدأ قبل حوالي 541 مليون سنة، عندما وصلت الحقبة الكامبرية ومعها ثروة تاريخية محفورة على الحجر.
تحاول العديد من النظريات تفسير حيثيات تشكل هذه الفجوة في تاريخ الأرض، لكن ربما يعود أفضل نموذج تفسيري لما حدث إلى ورقة بحثية عنوانها “الأصل الجليدي للاتوافق خلال حقبة الطلائع الحديثة (الحقبة الأخيرة قبل العصر الكامبري)” نُشرت في اليوم الأخير لسنة 2018 من قبل تسعة جيولوجيين ينشرون أبحاثهم في الأكاديمية الوطنية للعلوم، وكتبسيط لهذا النموذج، قام هؤلاء الباحثون بإلقاء اللّوم على عاتق الثلوج؛ أي الكثير منها بما يكفي لتحويل الكوكب إلى كُرة ثلجية عملاقة متجانسة. يمكن الإشارة إلى هذا بلغة غير أكاديمية بكرة الأرض الثلجية. أما في الوقت الحاضر، وبتسمية جيولوجية أكثر دقة ستصبح “كرة الأرض الجليدية” (Glacierball Earth). إذًا يبدو أن الأنهار الجليدية التي تكونت من الثلوج المتراكمة قامت بتغطية معظم أو جل سطح اليابسة على الكوكب خلال فترة اللاتوافق العظيم كما أنها غطّت جل البحار أيضًا.
تكمن أهم مميزات الأنهار الجليدية في كونها دائمة التحرك بحيث أنها تلقي بكميات هائلة من الجليد المتراكم نحو اليابسة ثم تستمر بالتوسع نحو الجوانب بسحق وكشط كل ما هو قابع بالجوار لتُسهل من عمليات وُلوجها عبر الجبال والتلال والسهول تمامًا مثل ما يُمكن لمجرفة فعله بالإسمنت قبل تصلُّبه. يمكن أن يكون هذا تشبيه وتفسير جيد لكيف استطاعت الأنهار الجليدية جرف حقبة واسعة من التاريخ الجيولوجي للأرض والتخلص من آثارها في القارات والمحيطات حتى يتسنى للصفائح التكتونية أن تخفي ما في جعبتها من دلائل. وكحقيقة غير معروفة خارج نطاق علم الجيولوجيا جميعُ قيعان المحيطات تعتبر يافعة نِسبيا حيث أنها تكونت في مراكز الانتشار (أين تبتعد صفيحتان تكتونيتان عن بعضهما) وسُحقت بسبب ما يعرف بظاهرة الغوص أو الاستخفاض (أين تجتمع الصفائح وتتقارب تحت القارات) أو تراكمت على شكل حطام حول القارات هنا وهناك وكمثال عن هذا يمكن أن أذكر منطقة خليج كاليفورنيا الذي يعتبر قاعًا محيطيًا لم يُستخفض إلى شكل تجويف أرضي. كنتيجة لكل ما ذكرت آنفا، نجد أن القصص التي مُحيت من ذاكرة الأرض الجيولوجية يتم قصها جزئيا من قبل هذه الصخور اليافعة التي لا تستطيع إلا تذكر أن طبقة من الجليد المتحرك قد محت كل شيء عنها قبل “ولادتها مجددا”.
أقوم بالتحدث عن كل هذا لأني أرى أن هنالك تشابهًا بين نموذج كرة الأرض الجليدية وما يحدث الآن وهنا، عبر مجال عالمنا الرقمي الجديد. تسقط عواصف من البِتات (bits) على السطح الافتراضي لواقعنا الافتراضي والذي يتكون في حد ذاته من مكونات لا تعدو عن كونها وقتية وزائلة أكثر من تلك الأنهار الجليدية التي قامت بتغليف الأرض يوما ما. كل هذه العاصفة الرقمية تقريبا محكوم عليها بالزوال بالرغم من إحساسنا بأننا محاطون بها دوما وأنها هنا دائما؛ إنها تفتقر حتى إلى تلك الموهبة التراكمية التي تميز الأنهار الجليدية.
لا يوجد أي شيء يميز هذه الوحدة الرقمية (بِت) من حيث استمراريتها بخلاف الوسائط التي تُخزّن داخلها، هذا إن كانت تخزن على الإطلاق. إنَّ الشكل يتبع الوظيفة وفي الوقت الحالي، تعتبر معظم الوظائف الرقمية، حتى تلك التي نطلق عليها “مُخزن” أو الذاكرة الساندة فهي غير دائمة وعرضة إلى الزوال. إن أكبر المواقع التجارية لتخزين البيانات الرقمية هي ما نسميه اليوم ب “الكلاود” (خدمات التخزين السحابي)، وبحسب تصميمها فإنه بإمكانها تذكر البيانات بشكل يطابق كيفية تذكر خزانة فارغة لما كان بداخلها قبل ذلك.
وتتزامن اللحظة التي تتوقف فيها عن الدفع لخدمات التخزين السّحابية مع لحظة اختفاء بياناتك دون ترك أي بصمات “أُحفورية” خلفها. قد ينتهي المطاف بمشغلات الأقراص المدمجة والأقراص المضغوطة وأقراص الفيديو القديمة تحت مركب ردم النفايات أين يمكن لها أن تبقى محافظة على شكلها، لكن لربما سينظر لها الناس عندها بنفس الطريقة التي ينظر بها علماء الجيولوجيا اليوم إلى معدن الزّركون الكامبري: كمجرد تلميح عن حدوث أنشطة رقمية في فترة لا يُعرف عنها إلا ذلك. أما في حال ما إذا تحدثت هذه الحفريات قليلا عما يحدث الآن على الإطلاق، فستتحدّث، بلا شك، عن كرة أرضية رقمية بدأت بمحو ذاتها مطلع القرن العشرين.
هذه ليست نظريتي وإنما هي نظرية زوجتي التي لطالما افترضت أن مؤرخي المستقبل سينظرون إلى عصرنا الرقمي على أنه عصر غير مرئي لأنه فشل فشلا ذريعا في أرشفة نفسه.
لكن، وبالرغم من هذا، علينا أن نعطي لأرشيف الأنترنت حقه، فهو يبذل قُصارى جهده للتأكد من نجاة واستمرارية بعض الأشياء، لكن ما الذي سيبقي على هذا الأرشيف عندما تكون جميع الوسائط المخزنة للبِتّات؛ من أقراص دوارة إلى وسائط التخزين ذو الحالة الثابتة؛ سريعة الزوال؟
تتجلى ظاهرة اللاتوافق خاصتي في مجموعة الكتب التي أضعها فوق مكتبي والتي يستند عليها اللابتوب؛ اثنان من هذه الكتب هي عبارة عن مقالات مجمعة عن التكنولوجيا في منتصف الثمانينات والتي قمت بنشرها ذاتيا. لقد عفى الزمن على معظم هذه الإصدارات على أي حال. وتوجد النسخ الأصلية لهذهِ الكتب على أقراص مرِنة لا يمكن قراءتها إلاّ بواسطة أجهزة الكومبيوتر أو التطبيقات التي كنا نستعملها في ذلك الوقت، وبعضها مدفون في الطبقات “الجيولوجية” السفلى من الصناديق التي تقبع في مرآبي.
لقد وجدت للتو قرصًا مرنا يحوي بعض تلك المقالات (إنه القرص ذو الحافة الزرقاء القابع أسفل صندوق الخشب على يمين الصورة أدناه). إذا كانت لا تزال هذه الأقراص تخزن ملفات قابلة للقراءة، فأنا متأكد بأنه توجد طرق لاسترداد نص الأسكي (ASCII) الخام على الأقل. لكنني مازلت أُراهن على أن النُّسخ الورقية للكتب تحت هذا الجهاز ستعيش لمدة أطول بكثير من الأقراص المرنة أو تلك الأجهزة القديمة التي حَوَّلتها سنوات من الإهمال إلى ما يشبه الطوب.

من ناحية أخرى، احتمالية أن تكون وسائط التخزين الأخرى أفضل مما ذكرت آنفا ليست بالواردة كذلك.
يوجد ضمن مجموعة الفيديو الخاصة بي أشرطة فيديو في إتش إس (أي نظام الفيديو المنزلي) تعتليها شرائط فيديو بصيغ 8 مم وHi8 (تسجيل تماثلي وفيديو/أوديو تماثلي مع إمكانية استخدام أوديو رقمي على التوالي) ثم توجد بعض البيانات الرقمية التي حُرقت وخُزنت ضمن أقراص صلبة. لم أستعمل معظمِها لسنوات بحيث أن بعض هذه الأقراص تحوي على واجهات ووصلات لم يعد أي جهاز يُصنع اليوم يدعمها؛ وعلى الرغم من أنني قمت بالاحتفاظ بأجهزة لكي أتمكن من تشغيلها، إلا أن جميعها فشل، حتى أن أحدها “اختنق” حرفيا عندما وضعت قرصا داخله ولم أستطع إخراجه بعد ذلك بسهولة. كان ذلك فشلا منعني من تقديم الذكريات المُسَجلة على الأشرطة القديمة وأقراص دي في دي كهدايا عيد الميلاد (كريسماس) لأفراد العائلة. أردت أن أُجدد المشروع في وقت ما قبل وصول العيد الذي تلاه، إلا أن ذلك لم يحدث. ربما سأفعل ذلك في عيد الميلاد القادم؟
ثم هناك أفلام والِدايْ ذات 8 و16 مم التي صُوّرت بين ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي. قمت أنا وأختي عام 1989 بتحويلها ونسخها كلها إلى شريط في إتش إس، ثم قمنا بتصوير والدتنا وهي تقوم بإدخال الشريط داخل جهاز العرض بينما أخذنا جميعا بالمشاهدة. لا زلت أحتفظ بالفيلم الأصلي داخل صندوق ما في مكان ما، لكني لم أتمكن من إيجاد أي من تلك الأشرطة. توفيت أمي سنة 2003 مما يعني أن جيلها بأكمله قد اختفى الآن.
تكمن الطبقة “الجيولوجية” لماضيّ الصوتي في بضع عشرات من الأشرطة السمعية ذات البكرة والتي سُجلت في الخمسينيات والستينيات؛ تقبع فوق هذه “الطبقة” أشرطة كاسيت وأشرطة صغيرة، بالإضافة إلى العديد من أقراص سوني الصغيرة المسجلة بتقنية ATRAC وهي عبارة عن خوارزمية طورتها شركة سوني ولم تعد لا هي ولا أي أحد آخر يعتمد عليها الآن. وعلى الرغم من أنه لدي أيضا طرقًا أخرى لتشغيل بعض منها (وليس جميعها)، إلا أنني حَذِر من تحويلها إلى أي صيغة رقمية (كنسق أوغ (OGG) الحر أو صيغة إم بي إي جي (MPEG)) وذلك لأن كل هذه الوسائط معرضة هي الأخرى لأن تصبح قديمة أو غير قابلة للاستعمال أو كلاهما، مثلما يحدث مع الصيغ، الخوارزميات والمرمزات الأخرى (برمجيات تستخدم لترميز أو فك ترميز معطيات الصوت أو الفيديو، الخ). أنا أحتفظ بالعشرات من مشغلات الأقراص الصلبة الخارجية في العلب والجوارير، وبما أنه لا توجد خدمة تجارية سحابية ملتزمة بالحفاظ على بياناتك الرقمية إلى الأبد في حالة عدم دفعك لما تتطلبه الخدمة، فمن المؤكد أن ملفاتي البيانية التي أقوم بالاحتفاظ بها في أحد هذه السحب سيتم التخلص منها مباشرة بعد توقفي أنا أو أبنائي عن الدفع للحفاظ على بقائها.
ينطبق نفس الشيء على صُوَري، حيث يتم تخزين بعض منها داخل الصناديق والألبومات وعلى شكل صور فوتوغرافية سالبة (الصور التي تظهر فيها المناطق المضيئة مظلمة) وكليشيهات Kodac المنزلقة. أما صوري الرقمية فتتبعثر داخل فوضى من الأقراص الصلبة الاحتياطية التي يبلغ إجماليها عدد كبير من التيرابايت؛ إضافة إلى عدد قليل من الأقراص المضغوطة. تُخزن حوالي 60.000 صورة على سحابة Flickr أين أملك حسابين (هنا وهنا) أدفع مقابل كل واحد فيهما 50 دولار سنويا. يوجد المزيد في حسابي على Berkman Klein Center (هنا) وفي مجلة لينِكس (هنا). من غير الواضح حاليا ما إذا كان سيبقى أي من هذا على حاله بعد توقف الناس عن دفعهم للرسوم السنوية؛ أعلنت شركة سامسونج التي تمتلك الآن فليكر عن بعض الإجراءات الباعثة للأمل لمآل الصور المماثلة لِصوري الخاصة والتي تم ترخيصها من طرف منظمة المشاع الإبداعي (Creative Commons) لتشجيع إعادة الاستعمال، لكن، وكما يخبرنا جيفري ويست: الشركات فانية لأن جميعها سيموت.
بالنسبة إلى أعمالي الرقمية ككل (أو أعمال أي شخص آخر)، فهناك وعود كبيرة فيما يفعله أرشيف الأنترنت وويكيميديا كومنز (أحد مشاريع مؤسّسة ويكيميديا للحفاظ على البيانات وتخزينها) لكن لا وجود لضمان بقائها لعقود أو حتى قرون أو آلاف السنين كما أنه ليس بإمكانهما الحفاظ على كل ما هو مهم (بقدر ما هم راغبون بذلك فعلا).
من الجيِّد أيضا إدراك أنه لا يمكن لأحد امتلاك نطاق على الانترنت، إذ أنه يتم تأجير جميع المواقع التي تحوي على نطاقات في مواقع وعناوين مستأجرة. ندفع مبلغا من المال إلى المسجل مقابل الحق في استخدام اسم النطاق لفترة زمنية محدودة، فلا وجود لأَسامي نطاقات أو عناوين IP دائمة؛ في العالم الرقمي، يسود قانون الفناء.
لذا فإن التعاقب التاريخي الذي أَراه، والذي حاولت إيضاحه في الصورة أعلاه هو عبارة عن تسلسل يبدأ بملفات مادية صلبة معرجا على الملفات الرقمية التي نحتفظ بها لأنفسنا ووصولا إلى السحب التي تختفي وتزول، فكل شيء رقمي ما هو إلا ثلجٌ يتساقط ليُلامس سطح مياه الوقت فيذوب.
فهل هناك من طريقة لنحتفظ طويلا بما نطلق عليه، وعلى سبيل المفارقة، “ممتلكاتنا الرقمية”؟ وأعني هنا الاحتفاظ بها لأكثر من بضع عشرات من السنين؟ أم أن كل هذا محكوم عليه بناءً على طبيعته بالزوال، مخلفا وراءه دليلا ليس باستطاعته إلا القول بأنه كان هناك يوما ما ولم يعد الآن إلا مجرد لا توافق رقمي وأن كل شيء الآن هو في طيّ النسيان؟
صراحة، لا يمكنني التفكير في أي أسئلةٍ تقنية أكثر جِدّية من هذين.
نُشرت النسخة الأصلية من هذا المقال في عدد مارس 2019 من مجلة لينكس (Linux Journal).
كاتب المقال الأصلي دوك سيرلز يتيح محتوى مدونته تحت رخصة نَسب المُصنَّف – الترخيص بالمثل 3.0 غير موطَّنة (CC BY-SA 3.0)
نقل المقال للغة العربية: رقية بن زرقة
ظهرت النسخة العربية لهذا المقال لأول مرة على مدونة يونس بن عمارة.
حقوق الصورة البارزة: Photo by Johannes Weißmüller on Unsplash
رأي واحد حول “هل ستخلف حياتنا الرقمية سجلا “أحفوريا” وراءها؟”