المال بمثابة مُكبّر صوتٍ للهوية

في العشرينيات من عمري ظللت لمدةٍ طويلةٍ بلا عمل. وغالبيتنا يرى هذا “لا حدث”. فلدينا العمر بأكمله لنعمل، والبقاء لبضع أشهر عاطلاً عن العمل فرصة جيّدة لاستكشاف ذواتنا.

حسنًا، في الواقع لم تسر الأمور بهذا الشكل في حالتي.

أمضيت ليالٍ بيضاء مفتشًا عن منشورات التوظيف لشركات قد تكون مهتمة بالقليل الذي يمكنني تقديمه. لَكَمْت زرّ “التحميل” يمنةً ويسرى وكأنه خصمي اللدود، كما حرصت على اختيار الصيغة المناسبة للملف قبل أن أفعل ذلك.

لم أكن أفعل أي شيء عدَا النوم، والأكل، ورفع الملفات، والإرسال. وبعبارة أوضح، كنت في حالة هستيريا للعثور على عمل.

قد يعتبر البعض هذا البحث المفرط عن الوظيفة سمةً شخصيةً مميزة. قد يتوهمون أنها أمارة على الطموح، أو مؤشِّرًا يدل على أن أولوياتي مرتّبة بشكل سليم.

على أي حال، كانت الحقيقة بعيدة عن ذلك. لم يكن ما يقودني بحثٌ عظيمٌ عن المعنى، أو رغبةٌ ملحةٌ في إضافة قيمةٍ للمجتمع. بل كان يقودني شيءٌ أقل نبلًا وهو:

خوفي الهستيري من التشرُّد.

كان هذا الخوف غالب الوقت هو ما يدفعني بجنونٍ للعثور على وظيفة ثابتة ذات أجر مُجزِي (مهما كانت الوظيفة تافهة). كنت أظنّ أنّه كلما ادخرت جزءًا من الراتب كلّما زال خطر النوم في الشوارع إن حدث أمرٌ سيء.

قد يتفهّم بعضكم هذا الخوف، فيما قد يعتبره الآخرون مُنتهى اللاعقلانية. أعرف أناسًا ذوي خلفيّة ثريّة يعانون من هذا الخوف، وأعرف أناسًا تربّوا في جو من الرخاء ولا يعانون من هذا الخوف. نشأت في عائلة لم تكن تملك أموالًا طائلةً، لكن هذا لا يفسّر سبب خوفي الجامح.

وبغض النظر عن مصدر هذا الخوف، فقد تعشّش فيّ سنوات العشرينيات من عمري على وجه الخصوص، فساهم بشكلٍ كبيرٍ في تأطير مفهومي عن المال. فبدلًا من رؤية المال كمولّد للثروة، أراه كشبكة حمايةٍ آنيةٍ (بالكاد) تمنعي من السقوط في معيشة الطرقات والنوم تحت الجسور.  كلمّا امتلكت أموالًا أكثر، منحتني ارتياحًا وبُعدًا أكثر عن الشوارع.

مرت سنون عديدةً مُنذ ذاك الوقت، ولحسن الحظ لم أعد أمتلك ذلك الخوف1. وهذا لا يعني أني توقفت عن التفكير بشأن المال. المال أعظم أمر انخرط فيه البشر، لذلك سيظلّ دومًا عنصرًا أساسيًّا في مسرح الحياة اليومية. ما تغيّر عندي ليس المال نفسه، ما تغير هو الطريقة التي يلوّن بها رؤيتي للحياة.

هذا ما سأسميه “طيف المال“، ويمثل مختلف وجهات النظر التي نملكها تجاه (الدولار/الأورو/…) المقدس خلال حياتنا. قد يكون الحديث عن المال صعبًا، لأنه يستثير فينا خليطًا غريبًا من المشاعر. وقد نعجز عن الإفصاح عن هذا الشعور الهلامي باستعمال لغةٍ دقيقة.

الهدف من طيف المال هو تحويل هذا الهلام عديم الشكل إلى نموذج ملموس يمكننا فهمه. فأولى خطوات الحل التعريف الواضح بالمشكلة، ولهذا أنشأنا هذا الطيف.

يمثل كل طورٍ من الأطوار الثلاثة غرضًا محددًا لامتلاك المال بالنسبة لنا، باعتبار الطور الأول هو القاعدة التي ستنطلق رحلتنا منه صعودًا لقمة البرج. وقبل أن نستعرض كل طورٍ على حدة، تذكر أن هذا طيف، بمعنى أنك قد تجد نفسك منزلقًا بين الأطوار في أي لحظة.

من الممكن أن يكون شخصٌ ما مستغرقًا تمامًا في الطور الأول، لكن الإمكان الأكثر احتمالًا أن يملك مواصفاتٍ من كِلا الطورين، ويكون أقرب إلى الطور الأول منه إلى الطور الثاني. وهذا فارقٌ مهم سنوضّحه لاحقًا. ما عليك معرفته الآن، هو أنه من النادر أن تكون علاقتنا بالأشياء مطلقةً، والمالُ ليس استثناءً.

 لنبدأ رحلتنا التصاعدية في طيف المال بهذا السؤال: كيف يكون شعورك حين تطّلِع على رصيد حسابك المصرفي؟

حسنا، إذا كنت مثل 28% من الأمريكيين الذين لا يملكون مدخرات لحالات الطوارئ، فستشعر بخليط من القلق والخوف. حين يكون الهدف الوحيد من تملّك المال هو تلبية الحاجيات الأساسية، فستكون علاقتك بالمال هشةً. فالندرة تخلق الهشاشة. وهذه الحالة تقودنا إلى بوابة الطور الأول.

الطور الأول: البقاء

قد يقول قائل أننا كلنا نتقاسم مساحة من هذا الجزء من الطيف. ففي النهاية كل ضروريات الحياة تتطلب دفع ثمنٍ ما: الطعام الذي تزدرده أفواهنا، والملابس التي نتجول بها، والسُقُف فوق رؤوسنا،.. إلخ فبدون مالٍ لا يمكننا توفير أيًّا من هذه الأشياء، فهل من الصواب القول أن وضع البقاء أساسيُّ في كل واحد منا؟

في الواقع، الجواب هو “لا”.

صحيحٌ أن المال ضروري لتوفير هذه الأساسيات، لكننا لا نملك جميعُنا نفس مقدار الخوف من فقدانها. من الممكن أن عائلة من ذوات الدخل المنخفض وعائلة من الطبقة العليا المتوسطة يستأجران كلاهما شقة خاصة، لكن الأولى قلقةٌ باستمرار حول تسديد قسط الشهر التالي، فيما لا تقيم العائلة الثانية اعتبارًا لذلك. كلا العائلتين تفهمان ضرورة المال، لكنهما لا تملكان نفس الفكرة حول أثر فقدانه على بقائهما.

والأمر الصعب بخصوص كلمة “البقاء” هو مدى ذاتيتها ولاموضوعيّتها، لكوْن البشر يُثيرُهم الفقدان أكثر من الكسب. فلو أن بيليونيرًا ما شهد تدهورًا سريعًا لثروته لدرجة لم يعد بإمكانه توفير منزلٍ بعشرة غرف، فمن المقبول القول أنّ بقاءه صار مهددًا.

وبُغية إزاحة هذا الضباب الناتج عن الذاتيّة، سنكبِّر حجم جزء البقاء في الطيف ونقسمه إلى أجزاء. وحين أستعمل كلمة “البقاء” في هذا المقال فأنا أقصد –ببساطة- قدرة الإنسان على الحفاظ على وجوده وصِحَّته. وفي الرسم التوضيحي أدناه، قسمت المقطع إلى عناصر أصغر، حيث كلما نزلت كان مستوى الفقر أعلى.

في أدنى مستوى لا تملك أي مال أو وصولٍ للطعام، أنت على حافة الموتِ جوعًا –حرفيًّا-. ويكون هذا في العادة نتيجة لأزمة وطنية/جهوية لغياب البنى التحتية أكثر منه فقدانُ شخصٍ للمال. ومع ندرة حدوث هذا في دول العالم الأول، إلا أنّ سببه الرئيسي هو فقدان الموارد المالية، وهذا أسوأ وضع قد يجد المرء نفسه فيه.

الدرجة الأعلى من ذلك هي فقدان المأوى، أو التشرد. وهنا يبدأ الإنسان في الشعور حقيقةً بالخوف من قدرته على البقاء حتى لو لم يكن التهديد حقيقيًّا (وخوفي السابق أقوى مثال على ذلك). في معظم الحالات يكون سبب ذلك هو صورة ذهنية واضحة لدى البعض عن مشكلة التشرد، لكونهم نشؤوا وهم يرَوْن أدلة ملموسةً عنها.

لدي ذكريات طفولية واضحة عن والداي وهما يتعاملان مع متشردِين، وقد ينطبق الأمر عليك أيضًا. التشرد هو نافذة مفتوحة دومًا على صعوبة المعيشة البشرية، وهو دليل على ما يمكن أن تؤول إليه الأمور إن لم تسر بشكل جيد. حين نعتقد أن بقاءَنا مهددٌ فإن عقولنا ستجعل رؤيتنا مقصورة على التشرد مهما كنَّا بعيدين عنه.

أما الدرجات الأعلى في الطيف فتمثّل فكرة الإنسان حول البقاء حين يوفّر حاجيّاته الأساسية (الطعام/الماء، المأوى، والملابس). في هذا الجزء من الطيف، لا يغدو البقاء ممارسات مستمرةً لتحصيل الحاجيات، بل يصبحُ اِلتزامًا قويًّا للحفاظ عليها. وبالطبع فإن الوقود الذي يبقي محرّك الموارد شغالًا هو المال.

يحتاج المرْءُ ليحافظ على صحته وصحة عائلته إلى دفقٍ مستمرٍّ من الدخل، غالبًا ما يكون على شكل وظيفة مأجورة. واِعلم أنك بارتفاعك نحو الجزء الأخير من طور البقاء فأنت تكافحُ من أجل الحماية لا من أجل البقاء. أنت في هذه المرحلة الأخيرة تريد أن يكون دفق المال متوقعًا، شيئًا بإمكانك حسابه كل بضع أسابيع لتبقى في مستوى واحد من توفير الحاجيات الأساسية.

توفر لك الوظيفة هذا النوع من الإحساس بالأمان، وحين تكون نظرتك للمال على أنه وسيلة للبقاء، فإن أهم شيءٍ عندك ينصب على ألا تفقد وظيفتك. فلا يهم مقدار كرهك للوظيفة ولا مدى سوء ظروف عملك. فطالما أمكنك التنبؤ بمقدار الوديعة التي ستحصلها نتيجة عدد ساعات العمل، فإنك خاضعٌ تمام الخضوع لوظيفتك.

لكن إذا استمر هذا النمط لفترة طويلة وكان الوقت في صالحك، فستصل إلى نقطة (سنكشِفها فيما بعد) تكون فيها الحدود الفاصلة بين الطور الأول والطور الثاني ضبابية.

في أيّ نقطة توفر لك الوظيفة مالًا كافيًا للشعور بالأمان؟ هل حين تتوقف عن العيش بالشهريّة (أو العيش من الراتب إلى الراتب) ويكون بإمكانك ادخار بعض الأموال شهريًّا؟ في هذه الحالة، ما مقدار الأموال في مدخراتك لتبدأ بالشعور بالإرتياح؟ 2000$، 10000$، أو 30000$؟

كلما ارتقيت في هذا الطور، فإن البقاء يصبح مرهونا بعقليّتك أكثر من واقعك. أنت بعيد كل البعد عن النوم في الشوارع، لكن قد تكون تصرفاتك محكومةً بالاعتقاد أن ذلك سيحدث لك قريبًا. وهذا ما يُوقِعك في نمطٍ محدودٍ من التفكير، ويعوقك عن النمو.

حين تفكر بعقلية البقاء، فإنك بالكاد تشعر بامتلاك أموالك. وسواءً أكان لديك 1000$ أو 100000$ لا شيء بإمكانه أن يبعد عنك الخوف من التردّي في دركات هذا السلّم. وقد يكون سبب ذلك تربية الوالدين، أو التجربة الشخصية، أو عددٍ من الأسباب الأخرى، لكن طالما أنك ترى المال وسيلةً للبقاء فلن يمكنك توجيه حياتك نحو مستقبلٍ واعدٍ.

المخاطرة دائما ما يصحبها شعورٌ بالخوف، وإن كنت تشتغل بعقلية البقاء، فإنك ستخاف من أي شيءٍ غير يقيني مهما كانت المخاطرة بسيطةً.

مع هذا المستوى من الخوف المستمر، لن يمكنك فعل أي شيء خارج منطقة راحتك. لن تطلب الترقية خوفًا من الطرد، لن تستثمر أموالك في سوق الأسهم خوفًا من الخسارة، ولن تسعى وراء أهدافك خوفًا من الإفلاس.

الأشياء ذات المعاني العميقة دائمًا ما تأتي مع مستوى من المخاطرة، وإن كنت تفكر بعقلية البقاء فلن يمكنك تحصيلها. وستبدو لك العواقب خطيرة دومًا حتى إن كانت أسوأ الاحتمالات إيجابيةً.

وباب الخروج من وضعية “البقاء” هو إدراك أنّ ما تملكه كافي. وهذه الكلمة “كافي” قد تثير في الناس مشاعر مختلفة، لكن ما أقصده ببساطة هو ذلك المقدار من المال اللازم لتغطية حاجياتك الأساسية.

هل لديك ما يكفي من المال لتنام تحت سقف منزلك؟ إذا غادرت وظيفتك هل ستصبح متشردًا، أم ستكون بخير؟ هل قلقك حيال المال غير مؤسس، بما أنك تملك ما يغطي ضروريّات الحياة لديك؟

يشتغل وضع البقاء حين يكون الواقع محجوبًا بضباب الخوف. الخوف يحوّل مشكلة بسيطة إلى كارثة، وأي قرارٍ صغيرٍ متعلِّقٍ بالمال يسبب توترًا شديدًا.

وإزالة هذا الضباب تتطلب الكثير من العقلانية، مع إدراك أن كل شيءٍ سيكون بخير. وما دمت ملتزمًا بالرفاه المالي، فإن الأمور ستسير بشكل طريف لتضبط نفسها. إذا فقدت وظيفتك ستعثر على أخرى. إن لم تحقق هدفك الإدخاري فستصل إليه في النهاية. إن تجاوزت ميزانيتك لهذا الشهر فستعوّض العجزَ في الشهر القادم.

وحينما ترى المالَ كمنبعٍ تملكه – وليس العكس- فستدرك حقيقته: إنه الأداة التي تضخّم القيم التي تملكها فعلًا.

في الطور الثاني من الطيف، يصبح المال ميكانيزمًا وآلية، أكثر منه غايةً. وهنا تشرق شمس القيمة، لتعيش حياةً متوافقة مع غاياتك.

الطور الثاني: الحرية

أتذكر حوارًا مع صديقة تخبرني بمدى كرهها لوظيفتها، وحين سألتها عن سبب استمرارها رغم كرهها لها، أجابت بنبرة حزينة: “توفر لي الوظيفة أسلوبًا معيشيًّا يسليني أنا وعائلتي. فبإمكاننا تمضية رحلات رائعة، ورؤية أشياء مثيرة، وأكل وجبات مميزة. أظن أن هذا ما يجعل الوظيفة تستحق بذل الجهد”.

وهذه أولى مراتب المال كأداةٍ للحريّة. حين يُستعمل المال للحفاظ على أسلوب الحياة وليس الحياة نفسها، فقد انتقلت من البقاء إلى مساحة جديدة.

وأكثر أشكال الحرية شيوعًا هو الترفيه. فبمجرد أن تغطي حاجياتك الأساسية، يصبح الترفيه أداتك للتعبير عن تفضيلاتك وأذواقك لنفسك وللآخرين. وذلك أن خوض تجارب لا تنسى وأكل أطباق لذيذة ليس أمرًا سارًّا فحسب، بل هي إشارة للأمور المهمّة لذاتك الحقيقية 2.

حين تجلس مع عائلتك في شاطئ بدولة بعيدة، تراقبون تموجات البحر، قد تشعر برغد العيش. وقد يجعلك ذلك تعتقد أنك بلغت ذروة الحرية، وأن هذه اللحظة تجزي عن كل ما اِضطُررت لفعله سابقًا.

لكن هنا تكمن المشكلة.

ثمن الرفاهية قد يكون جدّ مكلفٍ، وبما أن الحياة تجعلنا نألفُ مكوناتها، فإننا نميل إلى الرغبة في المزيد. إذا كان الترفيه هو الطريقة التي نعبر بها عن حريتنا فإننا سنفعل كل عملٍ مملٍ لنموّل تلك الصيغة من التعبير.

وهذا ما كان يحدث لصديقتي. كانت تتحمل عملها التافه والبليد لأنه يوفّر لها الموارد اللازمة لتمويل أسلوب عيشها الذي يجعل حياتها أكثر سرورًا.

المشكل في “حرية الترفيه” أنها غير متوازنة أساسًا. فعليك أن تعمل لساعات كثيرة لتظفر بساعة من الترفيه، مما يعني أنك إذا كنت تكره عملك، فعليك تجميع كمّ هائلٍ من البؤس لتدفعه فداءَ الحرية.

وواقعنا البائس يقول أن أغلب الناس لا يستمتعون بأعمالهم، ولا يتعلمون منها شيئًا. إذا جمعت هذا مع حقيقة أننا نقضي أكثر من ثلث حياتنا في العمل، فستجد أنّ المال هو السبب الوحيد لاستيقاظك صباحًا لزمن طويلٍ ممتدٍ.

ولهذا فإن أولى النتائج التي تتحصل عليها حين تبحث عن كلمة “التقاعد” هي التالية:

والتقاعد يعني للكثير من الناس أنه أصبح بإمكانهم عمل ما يحلو لهم دون أن يهتموا بشأن المال. أي أنه أصبح بإمكانهم أخيرًا مغادرة وظيفتهم، والسفر حول العالم، وضبط جداولهم حسبما يلائم إيقاع حياتهم.

على أيّ حال، هذه الفكرة حول الحرية محدودة الطموح. أن تضحي بأكثر من ثلاثين سنة من عمرك لمسارٍ مختلف عما تريده، أشبه بأن تقضي شبابك مع زوج لا تأنس بصحبته. ولما تنقطع أخيرًا عن تلك الوظيفة أو تلك العلاقة فستتساءل عما كان بإمكانك فعله بكلّ تلك الطاقة الضائعة.

وطالما أنك تضع المال كأقصى أولويات اختيار العمل، فستظل حبيس الجزء الأدنى من طور الحرية. ولتتحرر من هذا القيد، عليك أن تغير منظورك للمال:

بدلًا من استعمال المال كتذكرة خروجٍ من المسار المهني الذي لا يرضيك، اجعله تذكرة دخولٍ للمسار المهني الذي يُرضيك.

الدرجة التالية في الطيف هي الحرية المرتبطة بعملك، والتي يمكن للمال أن يشتريها.

في نموذج حرية الترفيه (أو التقاعد التقليدي)، كان ترتيب أسباب العمل كالتالي:

لكن في نموذج الحرية في العمل، يصبح الترتيب هكذا:

لا يزال كسب الأموال شيئًا مهمًّا، لكن الغاية من ذلك تتجاوز مجرد تجميعه.  إن من المقاصد الأساسية أن تمتلك حرية اختيار ما تُنشِئه.

وهنا ستدرك أن التقاعد ليس المقصد النهائي للعمل، بل مقصده أن تعمل أشياء كنت لتفعلها حتى لو لم يُعطى لك المالُ مقابلها. وستستمر في عمل تلك الأشياء يومًا بعد يومٍ سواءً أكان راتبك 1000$ أو 10000$. ليس لأن الأعمال التي تعملها مُربحة، بل لأنك تستمتع بالعمل الشاق في سبيل تنفيذها.

والسؤال المنطقي هنا سيكون: “كم عليَّ أن أمتلك من المال لأحصل على هذه الحرية؟”

يختلف جواب هذا السؤال حسب ظروفك الخاصة (أهم العوامل المؤثرة هي “أين تسكن؟” و”هل هناك عائلة أو أحدٌ يكفلك؟”)، لكن المال الضروري في كل الظروف لن يكون كثيرًا كما تعتقد.

وأول شيء يقوم به نموذج الحرية من خلال العمل أنه يُخفض عتبة المال اللازم للاستمرار في عملك. فلما يصبح عملك مُرضِيًا لك ومستحقًا لجهودك، فستكون مسرورًا بالعيش بنمط حياة زاهد.

هذا لأن المال لم يعد مؤشرًا موثوقًا لقيمتك وأولوياتك. في نموذج حرية الترفيه كانت كمية المال التي تحصِّلها ذات أهمية فائقة. إذا كان المال هو المبرّر الوحيد لاختيارك الوظيفة فعليه أن يكون في أعلى مستوياته، ليستحق كل الوقت الذي يأخذه منك.

على النقيض من ذلك، في نموذج الحرية من خلال العمل، المال ليس سوى وقودٍ تحتاجه من أجل الاستمرار في سعيك. وإذا أضفت لهذا هامش التكلفة الصفري للعمل على الأنترنت (خصوصًا لصناع المحتوى)، فأنت لا تحتاج الكثير من أجل عيش حياتك اليومية. ومادامت احتياجاتك الأساسية مغطاة فبإمكانك الاستمرار في عمل الأشياء التي تهتم لشأنها فترةً طويلةً3.

ورغم أن هذا الوضع مُغري إلا أنه يبدو للكثيرين بعيد المنال. فتحصيل المال من قيمتك الذاتية أمر جدُّ صعب. فقد نشأنا على اعتبار المال مؤشِّرًا للنجاح، وهو مؤشرٌ معترف به في العالم أجمع. فالثروة تحدّد تصوراتنا عن أنفسنا والآخرين على حد السواء.

لكن اسأل نفسك: إلى متى تحكمُ هذه المعايير المجتمعية أسلوب حياتي؟ أيهما أروع أن تعيش حياتك كما يُتوقع منك؟ أم أن تعيشها بالشكل الذي يُناسب تصوراتك وقدراتك الفريدة؟

يسهل نسخ الأموال، لكن لا يمكن نسخ البشر. لا يوجد بشريٌّ واحد يشاركك نفس التركيبة الجينية، ناهيك عن تجاربك في الحياة. وفي حين تستطيع إيجاد ما لا يعد ولا يحصى من الدولارات المتشابهة، فأنت –حرفيًّا- امرؤٌ متفرٍّد.

لذلك لا تسمح لشيء وفيرٍ مثل المال أن يكون مكوِّنًا من مكونات هويتك الفريدة، بدلاً من ذلك اجعله أداة لتكبير صوت هويتك الأصيل.

في طور الحرية، يُعتبر المال كأداة، كمضخّم للأصالة التي تجسدها. إنه المورد الذي يجعلك تعتني بنفسك حين تعمل الأمور التي ترى أنها تستحق جهدك. فلا تحتاج للكثير من أجل الاستمرار، تحتاج فقط ما فيه الكفاية.

ورغم أن عقلية “الكفاية” رائعة إلا أنني أتفهم صعوبتها. فأصعب ما في الأمر هو القلق الناجم عن مراقبة الأعداد تتراقص في حسابك المصرفي. إن كنت تعمل في المسار الذي يلائم شغفك بدوام جزئي فقد تكون في بسطةٍ من أمرك، لكن إن كنت تعمل بدوام كامل، فإن حقيقة أن “الكفاية” بعيدةٌ عن منالك قد تسبب لك الكثير من التوتر.

الحل هو أن تظل مجتهدًا (1)، صبورًا (2)، وعقلانيًّا (3).

الاجتهاد: إشارة إلى أخلاقيات عملك. لا يوجد طرق مختصرة فيما يتعلق بالاجتهاد. لا يمكن لأي كمية من التفكير الإيجابي أن تقوم مقام العمل الدؤوب.

الصبر: إشارة إلى المداومة والمكابدة. نتائج حصادك دائمًا ما تأتي متأخرة، والصبر هو ما يجعلك تتحمل وعورة الطريق وصولًا إلى المبتغى.

العقلانية: إشارةً إلى عقليتك. هل ستستسلم بسهولة وتتردّى إلى وضع البقاء؟ أم ستتفهم أنك بصدد ممارسة حريتك، من خلال إنفاق وقتك في حل المشاكل التي تريد العمل عليها؟ هل يمكنك أن تكون عقلانيًّا حيال وضعيتك وتتفهم أن الأمور ستكون بخير؟

اجمع هذه المعتقدات الثلاثة مع عقلية الكفاية، ستجد نفسك في المحصلة وَصلت إلى مكانة مرموقة. فيما مضى لم يكن هناك أحد يهتم لما تفعله، أما الآن ففئة من الناس صارت تحب أعمالك. كما أن بعضهم مستعدون للدفع مقابل خدماتك، منتجاتك، أو أي شيءٍ تقدمه. وأكيد أنك بالتدريج ستصل إلى مرحلة يتوجّب عليك فيها إضافة بضع خرزٍ إلى حزام أموالك.

وعندما يبدأ المدخول الناتج عن شغفك يتجاوز عتبة المصاريف اللازمة لسير الأمور، ستتحصل على ما أسميه فائض الرِضا.

وفائض الرضا هو أفضل نوعٍ من المال يمكن اكتسابه. ليس لأنه زائد عن حاجياتك فحسب، بل لأنه ناتج عن عملٍ كنت لتفعله حتى بالمجان. بل وأفضل من ذلك، فالعكس صحيحٌ أيضًا: فحتى لو ملكت كل أموال العالم، فلن تترفع عن ممارسة هذا العمل.

أفضل ما في فائض الرضا أنه يحرّر اهتماماتك ويقلل تركيزك على المال. لأن أصعب شيء حين تعمل في شيء ذي معنى ليس العمل في حد ذاته، لكن التوتر الناجم عن التفقد المتكرر لرصيد حسابك المصرفي. هنا يُعدّ فائض الرضا تذكرة الانتقال من هذا الجزء إلى أعلى جزء في طور الحرية:

حرية الاهتمام.

حين نذكُر الحرية المالية، فإننا نتصوّر شخصًا فائق الثراء، مثل هذا:

وحين نتخيل شخصًا لا يتمتع بالحرية المالية، فإننا نتخيله هكذا:

لكن، إذا كان الشخص فائق الثراء، ينفق كل طاقته في التفكير حول كمية المال لديه، وكيف يمكن له المحافظة على نمط حياته، فهو في الحقيقة ليس ثريًّا:

وإذا كان الشخص العادي لا يُشغِل باله كثيرًا بأمور المال، لأنه يملك كل ما يحتاجه، فهو ثريٌّ إذًا:

إن الحرية المالية لا تتعلق بالمال، بل بالاهتمام. فكلما كنت أقل اِضطرارًا للتفكير بشأن المال، كنت أكثر حريةً.

فضلا عن هذا، يساعدك فائض الرضا على إدراك هذا بشكل جليٍّ. فبمجرد أن تصل إلى قمة طور الحرية، فستجعل المال خادمًا لك. فهو مجرد أداة تساعدك على عمل ما تريده، وبمجرد أن يُتِم مهمته يختفي عن مجال تركيزك. هذه النقطة هي أحلى نقطة في طيف المال، وما لم يكن لنا رغباتٌ أو آمالٌ أخرى، فمن الحكمة أن نظل هنا لأقصى وقت ممكن.

لكن يبدو أنه من المحتم أن تتجاوز علاقتنا بالمال، دائرة الذات. فإن كان لنا عائلات، فسنرغب في استعمال المال لتوفير أفضل الفرص لأبنائنا. وإن كنا فاعلين في مجتمع ما، فسنرغب في توظيف المال في سبيل ازدهار أفراد ذلك المجتمع.

حين يتعلق الأمر بشبكة الأشخاص المرتبطين بنا، فبإمكان المال تضخيم هذه العلاقات بشكل دراماتيكي.. إما للأحسن وإما للأسوأ. ومهمتنا تحديد الاتجاه، وهذه الفكرة تقودنا للطور الأخير من طيف المال.

الطور الثالث: السلطة

حين تتبادر كلمة “السلطة” إلى أذهاننا، فإننا نتخيل صورةً مثل هذه:

لكن لنتفقد مدلول الكلمة عند السادة اللغويين:

السلطة

  1. القابلية للقيام بشيء أو التصرف حيال أمرٍ ما، بطريقةٍ كليّة أو نوعية خصوصًا.
  2. القدرة أو قابلية توجيه أو التأثير على الآخرين أو على مسار الأحداث.

هذان التعريفان يقدمان إطارًا جيّدًا لفهم السلطة، ولاحظ أن لا أحد منهما يحمل حكمًا تقديريًّا.

لا تُعتبر السلطة في حدّ ذاتها خيرًا أو شرًّا. فدائمًا ما نخلط بين مخرجات السلطة وبين امتلاك المرء لها، وهما أمران متباينان تمامًا، لذلك عليك التفريق بينهما. فحين يستعمل فردٌ ما سلطته بطريقة مُريعة، فهذا لا يعني أن السلطة في حد ذاتها شرٌّ خالص. بل يعني أن شخصًا تافهًا وضع يديه الوسختين على كرة تأثيرٍ محايدة القيمة، واستعملها بنيةٍ خبيثة.

السلطة في جوهرها متعلقةٌ بأمرين:

قدرة المرء على التصرف بحرية [التعريف 1]

وقدرة المرء على التأثير في سلوك الآخرين [التعريف 2].

ولمّا تعبر الحدود الفاصلة بين طور الحرية وطور السلطة في طيف المال، فأنت تنتقل بسلاسة إلى التعريف الأول. ومع وفرةٍ من “فائض الرضا” بين يديك، فأنت تسعى وراء ما تريد، دون التركيز على الطلبات المستمرة للمال.

أسمي هذه المنطقة الابتدائية بـ “السلطة على الذات“.

لن أطيل الكلام كثيرًا هنا، لأنها منطقة مشابهة للنهاية العلوية لطور الحرية، لكن يوجد أمرٌ أود توضيحه قبل الاستمرار:

الطريقة التي تمارس بها نفوذك على ذاتك، ستهيّء ظروف ممارسة نفوذك على الآخرين.

بعبارة أخرى، فإن تسييرك لحكمك الذاتي سيشكّل رؤيتك للآخرين. ولا يوجد مؤشر أكثر وضوحًا لهذا من كيفية استعمالك للمال.

فإن كان المرءُ يُعبّر عن سلطته الذاتية بشراء اليخوت، وارتداء السلاسل الذهبية، والتسكع في الملاهي الليلية، فهذا يدلنا على أمرين. الأمر الأول أن هذه الأشياء تمثّل ما يهمك فعلًا، وبالتالي سيربط الآخرون قيمتك كإنسان بقيمة هذه الأشياء المادية. الأمر الثاني، أنك سترى الناس من نفس العدسة، وستعتبر الماديةَ الحلَّ الأمثل لمشاكلهم.

مما يقودنا إلى حلقة خبيثة، حيث ترى الناس من منظار المال، ولا يرونك إلا من خلاله. المشاعر (مثل الحب والتعاطف) هي أمور بالغة الرقّة، وإن كنت تعتقد أن بإمكانك معالجتها بأداة غليظة مثل المال، فلن تفلح إلا في إثارة القرف عند أحبّ الأشخاص إليك (سأفصّل في هذا قريبًا).

وفهم الكيفية التي تريد بها ممارسة سلطتك الذاتية هو قارب النجاة في المرحلة التالية والأخيرة من الطيف: السلطة على الآخرين.

“السلطة على الآخرين” يبدو هذا المصطلح خطيرًا، لكن تذكر أنه لا يعني سوى قدرة المرء على التأثير في سلوكيات الآخرين. السؤال الأهم في هذه المنطقة هو: كيف تستعمل المال من أجل التأثير على مسار حياة الآخرين؟

أغلبنا يقيّم سلطة المال بناء على قدرته على توفير حياة أكثر كرامةً لعائلاتنا. فباستعمال هذا المورد الثمين، يمكن أن نوفّر تعليمًا أفضل لأبنائنا، ومساكن أوسع لشركائنا، وعطلًا أمتع لوالدينا. هذه الأشياء توفّر أساسًا صلبًا لمستقبل عائلتنا، وسيؤثر هذا بشكل أكيد على مسار حياتهم.

إذا كان التأثير قلعةً، فإن الطابق الموجود فوق الذات سيكون طابق “العائلة”. وسلطة المال تكمن في هذا المستوى بالضبط، لأن أفراد عائلتك سيرون الدليل الملموس أمام أعينهم، إذ يشهدون تحسّنًا في الأوضاع المعيشية.

على كلّ حال، هذا لا يعني أن سلطة المال ستقودنا دومًا إلى حياة عائلية أفضل. فالعكس صحيحٌ أيضا، فقد يؤدي اهتمامنا الزائد بالمال إلى عزل أنفسنا (لاإراديًّا) عن أفراد عائلاتنا.

وهنا يكمن الفارق الأكبر بين الحرية والسلطة. ففي حين أن السلطة محدودة من الأعلى عمومًا، فإن الحرية غير محدودة. فالسلطة حين تبلغ مبلغًا ما يصبح أثرها عكسيًّا. إذا كان تأثيرنا على الآخرين كبيرًا جدًّا (حتى إن كان باسم رفاهية العيش) فقد يولد الارتياب والضغينة والحسد.

وداخل كل طبقة من طبقات التأثير نجد معيار السلطة، إذ يمثل اللون الأخضر فوائد امتلاك سلطة المال، واللون الأحمر يرمز إلى الجوانب الأكثر إيذاءً.

في الصورة أعلاه نجد معيار السلطة في طبقة العائلة. وكلا اللونين موجودان. وجود اللون الأخضر بديهي، فأغلب الناس يعملون من أجل ما يُتيح لهم المالُ تقديمَه لعائلاتهم. فكلما حصَّلوا أموالًا أكثر، أمكنهم رفع رفاهية أحبائهم أعلى.

واللون الأحمر يمثل الجانب الآخر من القصة. الكثير من الأطفال لا يتمكنون من رؤية آبائهم لأنهم يعملون من 90 إلى 100 ساعة أسبوعيًّا. وقد يعيشون في منازل كبيرة تحوي كلّما يريدونه، لكنهم يشعرون باليُتم المعنوي، وقد يتحول هذا الشعور إلى ضغينة.

وحين تنسى أن سعيك وراء ما تظنه سلطةً يُؤثر على الآخرين، ستجد نفسك في هذه المنطقة الحمراء. الكثير من الآباء يعتقدون أن إظهار حبهم لأولادهم يكون عبر العمل الشاق، لكنهم ينسون أن أبناءهم لا يرون الأمر بنفس المنظور. وهذا ما يجعلهم يعملون بلا كلل من أجل أن يصبحوا أثرياء، ليجدوا في النهاية علاقاتهم مع أبنائهم ممتلأة أسًى وتحسّرًا على الفرص الضائعة.

ومع ذلك، فلا يزال اللون الأخضر طاغيًا في هذا المعيار، لأننا قادرون في النهاية على تفهم طبيعة تضحياتهم. وحين ندرك أن آبائنا يحبوننا، فإننا نتمكن من التعاطف مع محنتهم، وتفهم الضغط الذي فُرض عليهم لتوفير حياةٍ أفضل للجميع. قد يستغرق هذا الأمر بعض الوقت، لكن إذا سادت العقلانية فسيزول هذا النوع من المشاكل العائلية بمرور الوقت.

وغالبية الناس سيقفون عند هذه النقطة من برج التأثير. لأنهم سعداء بإعالتهم لذواتهم وأسرهم، فلن ينتقلوا إلى مؤسسات سلطةٍ إضافية. لكن إذا كانت الطبقتان الأوليتان نالتا نصيبهما بما فيه الكفاية، فمن المرجح أن يحاول الإنسان التأثير على صحة الأفراد في الدوائر الإجتماعية الأخرى التي ينتمي إليه.

النطاق التالي هو نطاق المجتمع.

إذا كيف يبدو معيار السلطة هنا؟

إن الأفراد في الدوائر الاجتماعية القريبة منك يعرفونك جيّدًا، وأنتم على اتصال جيد عمومًا من أجل أهداف مشتركة. قد يكون الرابط بينكم الدين أو الخدمة، وقد يكون شيئًا خاليًا من القيمة مثل “الترفيه”. وبغض النظر عن ماهيته فإن تحقيق الهدف أمرٌ ملقى على عاتق الجميع، مما يجعل دور كل فرد في مسرح المجتمع متساويًا.

لكن التأثير على الآخرين باستعمال المال قد يعقِّد الأمر برمّته.

فإن قررت التبرع بمبلغ ضخم، ثم سمع الجميع بفعلتك، فسيبدو الأمر هكذا:

والأمر الخطير بشأن المال، هو أنه يستعمل كأداة لقياس مدى قيمة الشخص في المجتمع. إذا كنت تنفق الكثير من الأموال على سببٍ تهتمّ بشأنه، فقد يقيس الناس مدى اهتمامك بذلك السبب بمدى سخاء إنفاقك، فالفروقات البسيطة تختفي كلما زاد عدد أفراد المجتمع.

وقد ذكرتُ فيما سبق أن الحرية المالية تزيد بالحدِّ من التركيز على المال، لكن العكس صحيح أيضًا. إذ تتضاءل الحرية المالية بتسليط تركيز أكبر على المال.

فكلما كان المال هو العدسة التي يراك من خلالها الناس، كان أصعب عليك التحرر من هويتك المالية. وقد لا يكون هذا أمرًا سيئًا لكل الناس. فقد تكون مستشارًا ماليًّا، وثروتك الشخصية تُعد مؤشرًا واضحًا وموثوقًا لمدى خبرتك.

لكن إن كنت تود مساعدة الكنيسة المحلية، فتذكر بأنه من المرهق أن تكون الشخص الذي يُشار إليه دومًا بـ”ذلك المحسن الذي يتبرع بمبالغ طائلة”. فالمال مؤشر رديء للحكم على قِيمَتك، وللأسف يقع الكثير من الناس في المتاعب بسبب عدم تمييز هذا الأمر4 .

والأشخاص في الدوائر الإجتماعية القريبة منك قد يكونون دقيقين في إطلاق أحكامهم عليك. وليس بالضرورة أن يكونوا مرتبطين بك مباشرة كأفراد عائلتك، لكنهم يفهمون مبادئك والأمور التي تشكل ذاتك بمعزلٍ عن ثروتك المالية.

في طبقة المجتمع لا يزال معيار السلطة منحازًا نحو الإيجاب، لكنه أقل إنحيازًا من طبقة العائلة. قد يكون المال بالغ الأثر، لكن لأن أثره يمتد إلى أشخاصٍ كثر (الكثير منهم لا تعرفهم بشكل شخصي)، فقد تتلاشى ظلال شخصيتك لتُختزَل في بعدٍ واحدٍ هو صافي ثروتك.

 الميزان هنا جدُّ دقيق، استعمل المال بحكمة وستعلو مع مجتمعك. استعمله بتهور وستجد نفسَ المجتمع الذي كنت تحاول مساعدته يسبُّك. المال يثير كل أنواع السلوكيات المجتمعية الغريبة، لذلك عليك أن تكون ذا بصيرة حادةٍ لتَسْلم في هذا المجال.

أغلب الناس سيوقفون جماح رغبتهم في التأثير (باستعمال المال) هنا. القدرة على التأثير في مسارات حياة معارفنا تمنحنا إحساسًا بالرضا، وهذا كافٍ ليبقينا سعداء طوال حياتنا.

ومع ذلك، فهناك بعض الناس الذين يتجاوزون هذا الحد برغبتهم في التأثير في حياة أناس لا يعرفونهم حتى. يريدون أن يصل أثر ثروتهم إلى حدودٍ بعيدة، ليؤثروا في حياة أكبر قدرٍ من الناس. وهذا النوع من التأثير تتنوع أشكاله من الهياكل الصغيرة (المؤسسات الخيرية المتوسطة، انتخابات المجالس المحلية، الاستثمار الملائكي،…إلخ) إلى أضخم الهياكل التي يمكننا تخيُّلها (الأعمال الخيرية العالمية، الانتخابات الرئاسية، شركات رؤوس الأموال المجازفة الكبرى،…إلخ).

ولنجمع كل هذه الاحتمالات في طبقة واحدة بعنوان “الناس الذين لا تعرفهم”.

تعدُّ هذه أخطر طبقةٍ ضمن طبقات التأثير. وهنا تأخذ السلطة والمال سمعتهما القذرة، والأشخاص الذين يعملون هنا يتعرضون لانتقادات طوال الوقت.

ولتدرك السبب، تذكّر هذا السيناريو من طبقة المجتمع:

ثم ليكن في حسبانك أن العمل في طبقة “الناس الذين لا تعرفهم” يفُاقم الوضعية، لتكون هكذا:

ومع التركيز المفرط على قراراتك المالية، فمن السهل أن تُختزل صورتك فيما تملك من الأموال. لا يُدرك الناس أنك لا تبالي بعلاقاتك مع جيرانك، وأن أختك قد تكون مريضة، كما لا يعرفون تفاصيل تمارين التأمل التي تمارسها يوميًّا. تعريفك الشخصي مساوٍ لثروتك، وبالتالي فإن القرارات التي تأخذها بخصوص ثروتك تُشكل تصورات الناس حول شخصيتك.

قد تظن أني أُفرط في التعميم، لكن الواقع يقول أنك إذا أضفت الثروة لقائمة خصائص شخصٍ ما، فإن سطوعها يجعل الخصائص الأخرى تبدو باهتةً أو مخفيةً. تريد دليلًا مرئيًا؟ أكتب اسم أي رجل أعمالٍ واعدٍ في خانة البحث في قوقل، وخمن أيّ مقترحات بحثٍ ستظهر:

هذا ما يهم الناس فعلًا!

هذه الرؤية الأحادية للهوية هي مصدر كل المشاكل في طبقة “الناس الذين لا تعرفهم”. فإذا كان الجميع يراك فنانًا فمن الصعب عليك أن ترى العالم بغير عدسات الإبداع. وبالمثل، إذا كان الجميع يعرّفك بثروتك، فمن الصعب أن تسعى لحلِّ مشاكل العالم بمنظور غير منظور المال.

في أحيانٍ كثيرةٍ يعمل هذا في صالح العالم. بيل غيتس مثلًا، يحاول حلّ كبرى إشكاليات العالم بتوظيف نفوذه. لكن بمقابل كل بيل جيتس نجد آلاف الأثرياء الذين يحاولون التأثير في الناس بطرقٍ أقل نفعيةً. ودليل ذلك الفساد السياسي والابتزاز على سبيل الذكر لا الحصر. فحين يُوظّف المال في حل مشاكل الألعاب صفريّة المحصلة (أي أن مجموع مكاسب الرابح يساوي مجموع خسائر اللاعب الخاسر)، فإن ذلك يكون على حساب الضعفاء.

وهذا لا يعني أن كونك ثريًّا ذو نفوذ يستلزم كونك شريرًا. الحقيقة أعمق من هذا. وهنا أتذكر هذا المخطط الرائع، الذي يصور حقيقة الموقف:

الصورة مترجمة من كتاب “ستيف كونفور”، تحييد الدَّيْن العام.

هناك الكثير من الأثرياء ذوي النفوذ الذي يحوزون على أطيب النوايا. ما أود قوله هو أن العمل في طبقة “الناس الذين لا تعرفهم” قد يكون زلقًا، وأساس ذلك أنه ينمي شعورًا بالإرتباط.

لا أملك ثروة شخصية لأعرف ما يحدث بالضبط في هذه الطبقة، لكني أتصور أن أغلب المشاكل نابعةٌ من عدم قدرة الثري على فصل ثروته عن باقي مقومات شخصيته. وقد قرأت عن حالات انتحارٍ لمدراء تنفيذيين (وحتى ميليارديرات) بسبب فقدانهم لأموالهم في ركود سنة 2008. قد يبدو هذا عملًا جنونيًّا لشخص مثلي، لكن لأني لا أملك ثروةً شخصيةً فلا أعرف شعور من يملك ثروةً تُعرِّف ذاته ووجوده.

إن المال مجرد وسيلة، لكن إن أمكن استخدامه للتأثير في حياة آلاف الناس فمن الأهمية بمكان ألا تفوّت استخدامه لهذا الغرض.

وحين يتعلق الأمر بالإرتباط، فإن هذه الكلمات الثلاث يلخصن كل شيء:

وما يدعو للسخرية هنا، أن قمة طيف المال قد تولّد خوفًا مماثلًا لأول طبقة في طور النجاة. فامتلاك سلطةٍ كبيرةٍ يجعل المرء خائفًا من فقدان أمواله بقدر ما يخاف من فقدانها لو أن بقاءه مرهونٌ به. هذا الميل نحو الارتباط هو ما يجعل معيار السلطة في الطبقة النهائية رهانًا خاسرًا:

وبما أننا لوَّنَّا كل طبقةٍ فلنأخذ خطوةً للوراء لنرى قلعة التأثير كاملةً:

قد تبدو القلعة وكأنها فسيفساء من قطع خضراء وحمراء، لكن لو نمزج الألوان لنحصل على معيار واحد لكل القلعة، فسنحصل على هذا:

وهذا ملخص جيّد لطور النفوذ. المال قد يكون خادمًا جيّدًا في مجالي الذات والعائلة، لكنه قد يولد شعورًا بالارتباط حين يتعلق الأمر بالتأثير على حياة الكثير من الناس. فحين تُعرف هويتك بالتأثير الذي تتركه من خلال المال، فأنت تلعب بالنار، وعليك أن تمتلك بصيرةً نافذة كيلا تحرقك.

وفي نفس الوقت إن كانت بصيرتك صائبةً فستتمكن من فعل الكثير من الخير. ما عليك إلا أن تأخذ باعتبارك المقايضات/التنازلات التي عليك القيام بها صعودًا نحو نهاية الطيف، وأن تفهم كيف تتذبذب قراراتك في كل طبقةٍ بفعل التي تحتها.

أين تقع إحداثياتك في طيف المال؟

لقد قمنا بشرح مفصلٍ لطيف المال، والآن علينا الرجوع للوراء لرؤيته إجمالًا.

أول سؤال أطرحه على نفسي حين أرى هذا هو: “ما اللذي يحدد مكان المرء في هذا الطيف؟”

قد يكون الجواب الأولي هو المال، ففي النهاية إن كنت لا تملك الكثير منه فأنت تعاني من أجل البقاء، وإن كنت تملك الكثير منه فبإمكانك التمتع بحريتك وممارسة سلطتك.

لكن هذا غير صحيح البتة.

فقد تمتلك ميزانيةً متواضعةً، لكنك تعيش في أعلى طور الحرية. خذ مثالا لامرأة مدخولها 30 ألف دولار سنويًّا، لكنها تعمل في وظيفةٍ تحبها. وعلاوةً على ذلك، فهي تعيش بنمطٍ يكلفها سنويًّا 20 ألف دولار. لديها حرية العمل، وتملك سلطةً على ذاتها، لا يمكننا القول إلا أنها غنية.

وبالعكس، فقد تمتلك أموالًا طائلةً، لكنك في أدنى طور البقاء. وهذا مثل شخصٍ مدخوله السنوي 300 ألف دولارٍ سنويًّا، لكنه يحصله من خلال وظيفة يكرهها. وزيادةً على هذا، فإنه يعيش بنمطٍ يجعله عبدًا لبطاقته الإئتمانية، مع رهنٍ لمنزله لا يمكنه سداده. إن حريته محدودة وبالكاد يمكنه التنفس. فلا يسعنا إلا أن نصفه بالفقر.

هناك عدة مؤشرات تؤكد فساد مؤشر كمية “الأموال في البنك”. فهناك العديد من المليونيرات الذين لا يرغبون في التأثير أو في مساعدة عائلاتهم والناس في الدوائر القريبة منهم. وبالمقابل، هناك أناس ذوي مدخول متواضع لكنهم ينفقون جزءًا معتبرًا منه في الاعتناء بوالديهم وأصدقائهم.

إذن، كمية المال التي تملكها ليست البوصلة الصحيحة لتحديد مكانك في طيف المال.

إذا كان المال ذاته لا يحدد مكاني في طيف المال، فبربّك أخبرني مالذي يحدد مكاني؟

قد يكون الجواب مبتذلًا، لكنه صحيح.

أنت من يختار مكانك.

لتفهم ما أعنيه، عليك أولا أن ترى الأمور من خلال الإطار الصحيح. فبدلًا من النظر بعدسة كمية الأموال التي تملكها، فعليك أن تبصر من خلال التنويعات المختلفة لشعورَي: الوضوح والخوف.

كلما كنت في مرتبة أدنى في طور النجاة، كنت أكثر خوفًا من المال وأثره على حياتك. إلا أنك كلما ارتقيت في طور النجاة واقتربت من طور الحرية، تلاشى هذا الخوف وبدأت الأمور في الاتضاح.

في طور الحرية تكون الأشياء أكثر وضوحًا، لكن في طبقة “حرية الترفيه” لا يزال الجو ضبابيًّا. وكلما ارتقيت في السلم، كنت أكثر تحكمًا في حياتك، وأفضل النتائج تحصل عليها في مساحتي  “الحرية من خلال العمل” و”حرية الارتباط”.

أسمي هذه المساحة بـ”البُقعة المثالية“، يمكنك هنا الاحتفاظ بأموالك لأطول وقت، مهما كانت كميتها.

وإذا ما اتخذت قرارًا بالاستمرار نحو طور السلطة، فعليك أن تلِج قلعة التأثير، وهنا تزداد الموازين دقّةً كلما صعدت إلى الأعلى. إن التأثير على عائلتك باستعمال أموالك قد يكون عمليةً مُتحكمٌ بها، لكن إذا صعدت إلى طبقتي المجتمع والناس الذين لا تعرفهم، فستضع الكثير من الأمور على المحك. لأن الارتباط يصبح جنونيّ الطابع، وسيأتي الخوف ليبسط سيطرته مجددًا.

يصبح طيف المال ذا معنًى لما تضع نفسك فيه باعتبار هذه المشاعر المتدرجة. فهو يساعدك على فهم حقيقة أن المال ليس شيئًا تملكه، وإنما شيءٌ تربطك به علاقة متبادلة. ومثلما تحتاج إلى اختيار الأشخاص الذين ترتبط بهم، فأنت بحاجة إلى صون هذه العلاقة مع المال بعنايةٍ واهتمام.

من بين كل الأمور التي تحدد مكانك على هذا الطيف، أهم شيءٍ هو هويتك. ما هو المكان الذي تراه أنسب لك؟

إذا كنت ترى العالم بعدسة النُدرة والرغبة في البقاء، فلن يزيدك المال إلا شعورًا بالنقص. وإذا كانت الحرية ميزتك، فستشعر بالوفرة مهما كان لديك. وإذا كنت ترغب في السلطة والتأثير، فإن المال سيجعل علاقاتك تميل إلى هذا النحو.

أين أنت الآن في طيف المال؟ وأين ترغب أن تكون؟ مالذي يمنعك من ذلك؟ هل هو المال، أم عقليتك؟

كن صريحًا في الإجابة على هذه الأسئلة، وهويتك هي التي ستجيبك، لكن لا تجعلها تُدهشك بإجابتها.

وفي النهاية، إذا لم تعطِ للمال هدفًا وغاية، فسينتهي بك المطاف أن يحدّد هو تعريفك.


 1- تطلّب تغيير رؤيتي الكثيرَ من الوقت وتجارب الحياة، لكن الأمر الأساسي كان إدراكي أن التشرد والفقر الحقيقي ليس غياب المال، لكن غياب الحب. ولما تعززت روابطي بأحبائي وصارت قوية، تلاشى هذا الخوف من ذهني.

 2- لا شيء يُنبئك عن هوية شخصٍ ما أكثر من تصفح حسابه على الإنستجرام. وستجد الكثير من “أنا شخص يحب السفر” أو “أنا أحب الأطباق الحسنة المظهر”.

 3- قد يكون الأمر أكثر صعوبةً في حال ما كنت تخطط لفتح عملٍ تجاريٍ ثقيل أو يحتاج إلى رأس مال كبير. لذا عليك الأخذ بحسبانك أن ارتفاع التكاليف الابتدائية يعني أنك بحاجة إلى مدخرات قبلية لتسير الأمور كما يُرام.

 4- لهذا أحيي المحسنين الذين يخفون أسماءهم حين يتبرعون بمبلغٍ ضخم. لأن هؤلاء الناس ينضحون بالحكمة.


رابط المقال الأصلي

تُرجمت هذه القطعة من المحتوى بإذن كاتبها الأصلي:  لورانس يو.

ترجمها للعربية: مصطفى بوشن.

نُشرت لأول مرة بالعربية في مدونة يونس بن عمارة.


حقوق الصورة البارزة: Photo by Pepi Stojanovski on Unsplash

6 رأي حول “المال بمثابة مُكبّر صوتٍ للهوية

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s