مساء الثريا وسلامة الرؤوس،
أطالع هذه الأيام كتاب الأجوبة التونسية على الأسئلة الغرناطية وهو نصّ جديد حول الأندلس وإفريقية قبيل سقوط غرناطة أي بحدود 1481م 886 هـ؛ كتبه محمد الموّاق ومحمد الرصّاع وحققه ودرسه الدكتور محمد حسن من الجامعة التونسية ونشرته دار المدار الإسلامي.
في المسألة رقم 25 طُرح سؤال عن جواز وجود ثريا من فضة تُوقد مصابيحها في أحد المساجد، وجواب الشيخ كان التحريم موافقة لقول الشافعية ثم ناقش آراء السادة المالكية الذين يجوّزون ذلك بشروط في حديث طويل. لكن ما لفت انتباهي –وأضحكتني عبارة هي عنوان التدوينة– هي هذه القصة التي تُعبّر أحسن تعبير عن عموم البلوى في هذا العصر المضطرب:
حدّثني بعض أشياخنا عن الشيخ الولي العالم سيدي أبو الحسن المنتصر، نفع الله به، أنه دخل ذات يوم جامع الزيتونة ومعه تلميذه سيدي سليمان الأوجاري وبيده عكّاز.
الأجوبة التونسية على الأسئلة الغرناطية ص 218.
قال: فرأى الثريّا موقودة. قال الشيخ سيدي سليمان: قال لي رأسي: خُذْ هذا العُكّاز وكسّر به هذا الزجاج. فقال له الشيخ: إن فعلتَ ذلك تُكسّر العامةُ رأسك، وهذا باب عظيم لا يتمّ الأمر فيه إلّا لمن كان جندًا حقيقيًّا لله تعالى، ولا يرى إلا الله، وكانوا….أقلّ من القليل. والمؤمن القوي في زمننا من معه أضعف الإيمان الذي إن رأى منكرًا وعجز عنه، يقول: اللهم إني لا أحبّ ولا أرضى. ويغيّر ذلك بقلبه.
ولقد صدق الإمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله ونفع به، حيث قال في بعض كتبه في زمنه: لئن قال عبد الله بن المبارك: وهذا زمن حلّت فيه العزلة، فنقول في زمننا: بل وجبت فيه العزلة، فبأي شيء نقول يا سيدي، نحن في آخر القرن التاسع في أغرب الغربة.
وهذا الكتاب تابع لقراءاتي فيما يدعى فقه النوازل الذي تكلمت عنه عرضًا في لقائي مع فرزت الشياح.
وأول الكتاب خاصة في إجابته عن أحكام الطاعون سيعطيك لمحة عميقة عن الذهنية الفقهية الإسلامية تجاه الأوبئة ومناقشة عميقة لحديث لا عدوى والأحاديث الأخرى التي تعارضه مثل لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ وفرّ من المجذوم (وفرّ من المجذوم هو عَجُز حديث لا عدوى!…)
مع ذلك كل ذلك الحديث الفقهي فضلًا عن أنه مفتقر بشدة للعلوم الطبية الحديثة التي لدينا الآن، فشل في تبسيط الأمر بسهولة ويسر بما يقبله العقل ويصدقه الواقع خلاف ما شاهدتُ في مقطع فيديو لمحمد إبراهيم عبد الباعث يقول فيه حديث لا عدوى ولا طيرة.. أوله أي لا عدوى يوافق لا طيرة. لأن القصد ليس نفي وجود العدوى بل بالعكس الدعوة إلى عدم إعداء الآخرين تمامًا كما لا يشك أحد أن الناس يمارسون الطيرة فقوله عليه السلام لا طيرة ليس نفي للطيرة إنما نهي عنها. فاللام في الحالتين ناهية. وهذا ما يثبته نهاية الحديث التي تقول وفرّ من المجذوم وإلا إن كانت اللام نافية أي تنفي وجود العدوى فسيكون الحديث متناقضًا، أما بخصوص حوار النبي عليه السلام مع الأعرابي واستدلاله بمن أعدى الأول إذًا؟ فهو يشبه الحوار الوجودي المنصوص عليه في الحديث عن أنه إن كان الله خلق العالم كله فمن خلق الله إذًا. فالموضوع هناك مناقشة أنه لا فاعل على الحقيقة غيره عز وجل. لكن الأسباب سنن الله في ملكوته يدبّر بها الأمور ولا ننفيها لكن لا نؤمن أنها تفعل بذاتها استقلالًا فهذا هو الإيمان الصحيح والعقيدة الحقّة.
على ذكر الإمام محمد إبراهيم عبد الباعث فله شرح أيضًا لحديث من رأى منكم منكرًا… وأتيت على ذكره لأنه مذكور في القصة أعلاه؛ وشرح الإمام محمد يختلف عن الشرح السائد فيقول الإمام محمد أنه ليس للترتيب المرحلي بل ترتيبه ترتيب أدوار. يعني الحديث ليس للترتيب أنه إن رأيت منكرًا فلتغيره بيدك. لأنه لو كان كذلك لكان مُشكلًا، فمن غير المعقول أن تغيّر المنكر مبتدئًا باليد، فالحسّ السليم يقول لا بد أن تنبه بالقول أو باللسان ثم تغير باليد. وبما أنه ثبت أن الحديث ليس للترتيب المرحلي، فإذن هو لتوزيع التخصصات أو الأدوار. فالتغيير باليد لمن له سلطة تنفيذ القانون، وباللسان للدعاة والعلماء وبالقلب للعوام ولجميع من سبق. والله أعلم.
توصية: إن كنت كاتبًا محترفًا وترغب في العمل على مشاريع كتابية مُجزية مع عملاء ممتازين، سجّل في تزويد الآن بصفتك كاتب محتوى.
إضافة نافعة لمتصفح الكروم PaperPanda تتيح لك وصولًا مجانيًا لملايين الأوراق والأبحاث العلمية التي تتصفحها مع إمكانية لتحميلها بصيغة pdf على جهازك.
توصية: قناة العاشرة صباحاً على التلغرام للكاتب هزاع بن نقا وهي قناة تقدم مقالًا كل يوم تقريبًا لا يتجاوز حجمه شاشة الجوال وتتمحور المواضيع حول الشأن الاجتماعي وتطوير الذات وقضايا الشباب، انضم للقناة الآن. ⭐⭐⭐⭐⭐
أعجبك ما أصنعه من محتوى؟ تواصل معي الآن عبر واتساب. اضغط على الزرّ الأخضر
يونس يسأل: كيف ترى أن يُطبّق التغيير والإصلاح في المجتمع؟
حقوق الصورة البارزة: Photo by Clarisse Croset on Unsplash
بخصوص “لا عدوى ولا طيرة” هي كما قلت: أي لا يجوز العدوى ولا التطيّر.. وهي مثل قوله “لا ضرر ولا ضرار” وكل الناس تعرف أنه ممكن الضرر والناس تضر بعضها البعض منذ الأزل.. ويفسرها حديث: “لا يورد ممرض على مصح”.. فهذا المقصد.. أي لا تعدي أخاك .. ولا تتطير لورود النهي عن التطير في أكثر من موضع وكان الرسول صلوات الله عليه يحب الفأل الحسن.. وهذا من أساليب اللغة بالعدول إلى المصدر والقصد هو “الفعل”.. ومثلها قوله تعالى: “وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَاۤءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ” فلم يقل لا تسفكوا ولا تخرجوا (بالأمر) بل بالصيغة المصدرية..
رأيي في التغيير في المجتمع أنه مسألة جدلية فإصلاح رأس النظام يحتاج إلى مجتمع صالح، وإصلاح المجتمع يحتاج إلى نظام صالح وهكذا في حلقة مفرغة.. لكن رأيي أن على من يستطيع أن يصلح بقدر ما يستطيع فليفعل، سواء كان في موقف سلطة: رئيس، وزير، مدرس، أب، أم، قائد ، إلخ.. ففعليه أن يصلح بما يستطيع ومن كان في موقف القدرة على التعبير فليفعل وأضعف الأيمان كما قال الرسول في الإنكار القلبي عندما لا يكون باليد حيلة.. وهو كما قلت أنه ترتيب أدوار كما تفضل الشيخ.. وعندي نقاط في الإصلاح المجتمعي:
١- من أعظم وسائل التغيير التغيير بالقدوات فعندما يبدأ المرء بنفسه ويكون قدوة (صادقة) فيما يدعو إليه سيحصل التغيير العظيم.. ولهذا كان الأنبياء أعظم الخلق وخًصّوا بالعصمة..
٢- على من يتصدر رسالة الوعي والنصح أن يقرأ ويتعلم أساليب الدعوة بالتي هي أحسن.. ويتعمق فيها لأنني أجد الكثير من الدعاة عبارة عن “نائحات” لا أكثر..
٣- يجب معرفة الخلافات الفقهية الدقيقة والإنكار على ما يستحق الإنكار.. وليس على دقائق فقهية أو خلافات مذهبية وتعظيمها بل والتكفير عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وبهذا لا يجوز الإنكار على ما ليس بمجمع إنكاره.. فهذا من السفه.. وعند التشدد في الإنكار يتخلى الشباب وينطوون تحت أيدلوجيات غير دينية..
٤- العلم ثم العل حتم ثم العلم.. من يريد الإصلاح عليه أن يعلم ما يريد إصلاحه حق المعرفة.. حتى لا يحاول أن يفسد من حيث أنه يحاول الإصلاح.. وقد قيل: الحكم على شيء فرع عن تصوّره.. فمثلا من يريد إصلاح منظومة التعليم في بلده.. عليه أن يعرف هذه المنظومة من بدئها حتى منتهاها ويعرف مكامن الخلل حتى يستطيع أن يضع الإصلاح في موضعه.. لا أن يزيد الطين بلّة..
٥- الإصلاح والتغيير المجتمعي ممكن وهو يحتاج إلى نفوس متفائلة ومثابرة..
٦- لا يجوز أن يكون الدعاة الإسلاميون غلاظا شدادا فظاظ القلوب.. بعض الدعاة المشهورين حاليا ممّن يتصدرون المشهد أشمئز من أسلوبهم الفظ رغم أنني معهم في نفس الرأي.. يجب أن يحمل الداعية الإسلامي همّ الدعوة وأن يكون هدفه هداية الناس لا إفحامهم ولا “قصف جبهاتهم”.. والناس تتأثر باللين والمعاملة الحسنة أكثر من العقل والمنطق.. في حين أن أصحاب الأفكار الأخرى ذات المرجعية الثقافية الغربية مثلا فيهم من الأدب والوقار أحيانا أكثر من هؤلاء.. إضافة إلى المصيبة الأخلاقية في التعميم القبيح حيث لديهم قائمة من المصطلحات ويعممون من يتبنّاها بأكثر أصحابها تطرّفا: العلمانية والنسوية وغيرها.. وهذا التعامل ليس من الحق في شيء.. إلا إذا كانوا يحبّون أن ينتعوا دواعشا وإرهابيين بجريرة أولئك..
٧- يجب فهم (بعمق) الكثير من العلوم: علم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين بفروعه المختلفة ومحتلف العلوم حتى نعرف كيف تتغير المجتمعات وكيف تنتكس.. وهذا يحتاج إلى العلم وأن يكون ركيزة أساسية. التواضع أمام العلم سيرفعنا.. وهذه ترجع للنقطة السابقة.. رقم ٤
٨- أن يكون الإصلاح والتزكية لأنفسنا أولا قبل كل شيء.. تطبيقا لحديث القذى والجذع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، من كان يستغفر في مجلسه سبعين مرة وهو قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر..
هذا ما يخطر في بالي حاليا.. التغيير الحقيقي لا تكفيه النية الحسنة..
إعجابLiked by 1 person
✅🌷 أحسنت وسلمت يمناك
إعجابLiked by 1 person