أيْ إبكتيتوس أخبرنا أي مكتبٍ يوقّع لنا وثيقة الإنسحاب؟

وفق الدكتور عادل مصطفى الذي ترجم ترجمةً رائعةً ثلاثة من أهم الكتب الرواقية إثنان من أمهاتها (المختصر والتأملات) والآخر دراسة ممتازة عنها (الفلسفة طريقة حياة لبيير هادو)، فإن الرواقيين يُجوّزون الانتحار “الذي يسمونه الانسحاب” في حالات خاصة، لم أصادف ذكر أي حالة من هذه حالات المعنية أو ربما نسيتها لكن المهم هنا أن ندرك أن الانسحاب الذي يجوّزه الرواقيون – الذي بدأ مذهبهم ينتشر مجددا في العصر الحديث كمضاد للكآبة- لا ينبغي أن يؤسس على مشاعر كَرَبٍ لا تحتمل، إنما هو فعل واع عقلاني تماماً يتوج حياة حافلة من “الممارسة الحقة لتعاليم الحكمة”. يتمحور معظم كتاب بيير هادو الذي ترجمه الدكتور عادل باقتدار حول أن الفلسفة في العصور القديمة لم تكن قط خطابا (ويفند بإحكام بعض مقولات فوكو بشأن الموضوع) بل كانت ممارسة للحكمة وتنفيذاً لتعالميها، ذلك أن الفيلسوف لدى إبكتيتوس ليس ذلك الذي يتقن المنطق ويحفظ الحجج ويبزّ الخصوم بل ذلك الذي يُظهر عياناً نتاج الحكمة في تصرفاته؛ يشير الفيلسوف إبكتيتوس – الذي كان عبداً وتحرر وقاسى الأهوال في حياته- إلى أن الناس قد تستهزء -بل وتفعل ذلك حتماً- بمن يريد ممارسة الحكمة قائلين “ها قد عاد إلينا فيلسوفا دفعة واحدة” والنصيحة التي يقدمها إبكتيتوس هي “ألا تأبه لهم” ما دمت تعتقد أن ما تفعله هو الصواب. قد يقول البعض أن ممارسة الحكمة كانت شيئا مقبولا في ذلك العصر لكن الواقع مخالف لذلك فلو طالعت مثلا كتاب صوان الحكمة لأبي سليمان المنطقي السجستاني (وهو من المؤلفين المحببين لقلبي لأسباب كثيرة) الذي يترجم فيه الفلاسفة ما قبل الإسلام ستجد كل ٤ او ٥ صفحات عن فيلسوف ما “وشتمه انسان فرّد عليه…” هذا ما يؤكد عليه إبكتيتوس أن ممارسة الحكمة لا تتطلب ختم موافقة من الناس. بل التزاماً داخليا ثابتا لا تزعزعه النوائب.

إن الفلسفة الرواقية مثيرة جدا للاهتمام ومع أن مبادئها بسيطة إلا أن تطبيقها يأخذ عمرا لا زلت أذكر أول مرة قرأت فيها التأملات وفد انشدهت جداً ..(وليس اندهشت لأني أعرف ما أكتب…غالباً) و منذئذ وماركوس صديقي.. أما مَطلع المختصر لإبكتيتوس فهو مشابه تماما للمطلع المثير للدهشة لفصوص الحكم لابن عربي الذي يقسم لك العالم إلى فئتين فتنفتح أمامك أبواب فهم لا حدود لسقفها. لقد كانت الفلسفة ممارسة ولم تكن خطابا ونشهد الآن -وإن ببطء- عودة الفلسفة إلى حالتها الأولى المجيدة “طريقة حياة ” لا “خطاب نظريات”؛ إن الرواقية قد لا تجيب عن الأسئلة الأخلاقية المطروحة حالياً لكنها بالطبع تجعل المرء يحيا حياة طيبة ومن هنالك من خلال ممارسة الحكمة لا يعود للكثير من القضايا الأخلاقية أهمية واقعية تذكر فإن كان الجميع يتحلون بالصدق والأمانة لن نضطر لكتابة مجلدات في قانون التحايل والخداع وتأسيس المنطلق النظري له.

تقسم الرواقية الأمور إلى شقين: ما يمكن السيطرة عليه؛ ما لا يمكن السيطرة عليه وتتمحور الرواقية كلها حول ألا ترغب في تغيير أي شيء لا سيطرة لك عليه على سبيل المثال الطقس أو أسلوب مديرك المجحف. فإذا تمكنت من ذلك فأنت حر في نظر الرواقية لكن إن لم تتمكن ذلك حتى لو كنت القيصر -بتعبير إبكتيتوس – فلست حرا، في الحقيقة تتجه كل توصيات الرواقية الأخرى إلى جعلك تريد فقط ما يمكنك السيطرة عليه ألا وهو انطباعك وردة فعلك تجاه الأشياء على سبيل المثال “ما من شيء فظيع يحدث إنما الفظيع ما تشعر به إزاءه” بمثال حديث لو صدمت سيارتك فإن هذا حادث أما إنه “كارثة ألمت بي” فهو تَزيُّد لا محل له من الإعراب بنظر إبكتيتوس.

أنا مدرك أن الرواقية تشبه المذاهب الصوفية في كثير من جوانبها لكنها أسلوب عيش مختلف عنها وأبناء الوقت سيجدون صعوبة في فهمها ناهيك عن تطبيقها، لأنها تتطلب صبرا كي تُفهم على حقيقتها. ذلك الصبر الذي نفتقر له جميعاً في هذا العصر بما فيهم كاتب هذه السطور،  وبهذا الشأن أدعوك إلى قراءة المختصر لـإبكتيتوس ترجمة عادل مصطفى لتحظى بمتعة رواقية مركزة لا مثيل لها.

رأي واحد حول “أيْ إبكتيتوس أخبرنا أي مكتبٍ يوقّع لنا وثيقة الإنسحاب؟

شاركني أفكارك!

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s