هل تُفضِّل أن تُعرف بأسلوبك في الكتابة أم بردودك السريعة على الرسائل؟

نزّل المقال بهيئة PDF من هنا:

كيف قلب النظام الأبوي ميزان أولوياتك؟

1- يغرس فيك شخصية اِرتيابية

منذ عدّة سنوات أتاني إلهام. في ذلك الوقت كنت أسعى جاهدة إلى إجابة كل الرسائل الواردة إلى بريدي الإلكتروني. كنت واقعة تحت ضغط الخوف من إحباط الآخرين. وقتها كان تلطيف خواطر الغرباء أكثر أولوية من أعمالي الفنية أو صحتي النفسية. وقد تكونين واقعة في حالة مشابهة الآن.

كنت أحاول الإتصال بكاتب أحترمه من أجل إشراكه في سلسلة قراءة منتقاة، كان يكبرني ببضع سنوات، ومنذ ذلك الوقت صار صديقًا جيدًا. وقد راسلته بالكثير من الرسائل الإلكترونية لأجل تنسيق الأوقات بيننا وللتأكيد على مشاركته. كان يجيبني في الحال أحيانًا، ويكتب فيما يرسله: “أعتقد أن هذا مناسب، دعيني أتفقد أمرًا”. وفي بعض الأحيان لا يرسل أي رد. لم يجعلني ذلك أراه مخبولًا. إحباطي الصغير منه لم يوقع عليه القيامة. وببساطة فقد تعلمت أن ردوده غير مستقرة. فوازنت توقعاتي وفق ذبذبته. كنت صبورة ومصرة، وفي النهاية قدم قراءة رائعة ضمن سلسلتي.

النساء لسن قويات بما فيه الكفاية لفعل هذا. نحن محكومات بضرورة إثبات ذواتنا، وكأن قيمتنا مشروطة بقدرتنا على إرضاء توقعات الآخرين. وكأن أهميتنا عبارة عن خزان ينفد بإستمرار وعلينا ملؤه المرة تلو الأخرى. ننفّذ المهام ونحن نعتقد (ويا للأسف) أننا إن لم نفعل ذلك ستسحب منا الثقة. أحيانًا يكون ذلك صحيحًا. لكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل تودين أن تكوني مصدرًا موثوقًا للفنون الأدبية (أو أي نوع من الكتابة تمارسين)، أو مجيبًا فوريًا على الرسائل؟

اتخذت قرارًا واعيًا لنمذجة أسلوبي في التواصل وفق ذلك أسلوب ذلك الرجل الكاتب. أن أطلق العنان للأمور أحيانًا. وفي النهاية لا يمكن أن يكون هدفي الإجابة على كل ما يردني. إن سطرت توقعات جد عالية فالاتجاه الوحيد المتبقي هو الاتجاه النازل، نحو الإحباط. ماذا لو صرت رقمًا صعبًا وأصبحت تتلقين عددًا مهولًا من رسائل البريد الإلكتروني؟ هل كنت لتكتبي ايمايلات حصرية؟ أنا لست مشهورة ومع ذلك لو أجبت على كل رسالة تردني فلن أتمكن من كتابة أيّ شيء.

2- توقفي عن الاعتذار لأنك أخذت وقتًا كافيًا للرد

أنت تفسدين علينا الأمر (وعليك أيضًا) بتعزيزك للتوقع المتنامي بالرد الفوري. الإشباع الفوري لا بوجد إلا في بضع أمور قليلة منها المخدرات، قصّات الشعر، والوشوم. عليك أن تتخلي عن الحلم، أو تضحي بفنّك (وصحتك النفسية وحريتك) كقربان. ذلك الرجل الكاتب لم يعتذر لي أبدًا عن وتيرته غير الموثوقة في الرد، ولم يكن بحاجة إلى ذلك. أسبوع تبدو فترة مناسبة وجد منطقية للرد. وربما أكثر. على أية حال توقفي عن الاعتذار.

3- توقفي عن العطاء المجاني

هل أنت صانعة محتوى تبذل كل ما في وسعها لتكتب جيدًا؟ نفس الشيء بالنسبة لي. وربما، مثلي أيضًا، أنت تتسلمين رسائل من بعض الغرباء اللطفاء الذين يطمحون ليصبحوا كُتّابًا، أو هُم كُتّاب/كاتبات بالفعل، حيث يطلبون منك مراجعتك لقصتهم القصيرة أو مقالاتهم الشخصية، أو أشعارهم بصفتك خبيرة. بعد نشري لمؤلَفي الأول، تلقيت رسائل من بعض الكاتبات اللواتي وجدن أنفسهن فيما كتبتُ. كتبت الكتاب من أجلهن، وكنت سعيدة أنهن اِتصلن بي ليعلمنني بذلك. لذا لما طلبن مني مراجعات لأعمالهن، شعرت أنني أدين لهن بشيء، رغم أني أعمل فوق المطلوب وأجرتي تحت المتوسط وأني أملك عددًا من الأصدقاء الكُتّاب الذين يدينون لي بمراجعة.

إنه لشعور رائع أن يكون هناك غريب ما يعتقد أنك خبيرة، خصوصًا إن كنت نشأت تحت كنف ثقافة أبوية تصر أن ليس بإمكان المرأة أن تصبح خبيرة في أي شيء، لا سيما في المسارات الفكرية والفنية. الجنسانية الأكاديمية (على غرار العنصرية والتمييز ضد المعاقين وباقي أنواع التعصب) تجعلنا نشعر بأننا مدينات لمن يعترف بقيمتنا، لأن بمقدوره سحب ذلك الإعتراف أيضًا. فلا قيمة لنا إلا في تقديرات الآخرين. ليست مهمتك تسديد ديونك تجاه من يقدّرك بإعطائه ما يريد لكن مهمتك هي كتابة المادة التي يقرؤونها، وقد قمتِ بذلك بالفعل.

لن تطلبي من مُحاسب متخصص في الضرائب، أن يحسب لك الضرائب المترتبة عليك مجانًا، أليس كذلك؟ وربما قد تتوقعين أن يقوم صديقك المقرّب جدًا الذي يعمل محاسب ضرائب بأن يعطيك خصمًا على تحضير الضرائب المترتبة عليك، لكن لن تحلمي بمراسلة محاسب ضرائب لا تعرفينه لتقولي له:  “أحببت فعلًا طريقتك في المحاسبة وسأرفق الرسالة بكل وثائقي لتتمكن من حساب ضرائبي مجانًا. شكرا لك!” هذا ما يفعله الغرباء الذين يراسلونك طالبين منك مراجعات لأعمالهم. أجيبيهم بـ”لا”، أو لا تقولي شيئًا.

4- اِرفضي الدعوات

هذا مخادع بعض الشيء. نحن مدفوعون لقبول كل شيء –التدوينات، القراءات، التحرير كضيف- لأن هذا يجعلنا أكثر ظهورًا، ويساعدنا في تعزيز علاقاتنا وغيرهما من الفوائد. وصحيح لحد ما أن على الكاتب في بداية مسيرته أن يقوم ببعض الأعمال المجانية. على كل حال، يجب أن لا تطول هذه الفترة إلى الأبد.

“لا” كلمة جد قاسية. ويصعب عليّ قولها في بعض الحالات، يلزمني إجراء حوار افتراضي مع أصدقائي (أو المعالج النفسي). وقد يعينك إعداد ردود جاهزة. فلو ارتجلت في هذا لنكصت على عقبي! هذه بعض السطور التي نفعتني ويمكنك استعارتها:

” كنت لأسعد بعمل ذلك فعلاً! لكن للأسف، من المحتمل ألا أتمكن من إضافة أي شيء لجدول أعمالي حاليًا”

“أنا آسفة، لا يمكنني تحمل أية اِلتزامات غير مدفوعة في الوقت الراهن”

“أوه، شكرًا لك! أتمنى بصدق لو أجد الرغبة لإنجاز ذلك!”

5- اِسرقي أوقاتًا

أبرمج أوقاتا للكتابة في جدولي الزمني. وهي ممارسة جيدة. المشكل أني لا ألتزم بتلك المواعيد. صديق أو زميل يطلب مني معروفًا أو يستدعيني للغذاء (وجبات الغذاء: يفسدن بشكل كامل أيام الكتابة الرائعة)، فأوقف أعمالي دون تردد. ولو أني أتكفل بأحد أصدقائي بالقدر الذي أتكفل بكتاباتي، فمن المحتمل أن أفقده.

ثم أتى ذلك اليوم حين طلب مني أحدهم خدمة في وقت قد خصصته للكتابة، فقلت أنه لدي موعد. من الناحية الفعلية: لم أكن أكذب، لكني تظاهرت ذهنيًا أن لدي موعد مع الطبيب. ونجح الأمر، وتمكنت من الكتابة ذلك اليوم. إذا كنت تعانين بسبب الرغبة الملحة في الظهور بشكل “طيب” وأن تمنحي الآخرين ما يحتاجون، فربما بإمكانك رسم حدود خادعة مثلما فعلت.

طبقت هذا الأسلوب بطرق مختلفة. هل لديك عطلة؟ ذاهب لإقامة؟ جهّزي المجيب الآلي على وضع العطل يوما قبل ويومًا بعد ذهابك. اضبطيه على إعدادات العطلة في حين أنك لن تذهبي إلى أي مكان بل ستمنعين وصول الآخرين إليك فقط. هذا أكثر نفعًا صحيح؟ تعلمي أن تحترمي وقتك وقولي ببساطة “لا، عليّ أن أكتب.” وسيصبح الأمر أسهل كلما فعلتيه.

6- توقفي عن السعي نحو الكمال إلا في الكتابة

أقول مجددًا أن كلامي يخص النساء، الملونين، الشواذ، وباقي الفئات المهمشة. وسأكرر فيما يلي ما أقوله لأنه أمر يتطلب ذلك. النظام الأبوي (الأساس الأول للتعصب الأيديولوجي) يقودنا للعيش بطريقة تشعرنا أننا لا نعمل إلا من أجل سدّ النقص. بطريقة ما، يعتبر هذا صحيحًا. عليك أن تعملي بجهد مضاعف لتحصلي على نصف الفضل. قضيت نصف عمري أحاول أن أكون إنسانة نموذجية. أفضل تلميذة. أفضل غاسلة صحون. أفضل نادلة. أفضل مربية أطفال. أفضل امرأة ذات منصبٍ إداري. أفضل مدمنة هيروين. أفضل أستاذة جامعية. أردت أن أكون طيبة، وكأن ذلك يثبت أني أستحق ما هو أكثر من التقديرات العابرة للمتعصبين الجنسيين (المناهضين للنساء فقط لأنهن نساء).

اِستمعي إلي: أن تكوني طيبة عائق مهول في سبيل تحقيق الأعمال الجيدة. توقفي عن ذلك حالًا. قومي باختيار بعض المجالات الثانوية الصغيرة، مثل صديقة جيدة، أو إتقان الكاريوكي. اِحذري، أن تضعي بحسبانك حاجات ورغبات أناس آخرين حين تختارين أحد هذه المجالات. أجد فرصًا كثيرة لإثبات أني فاتنة. أنفق وقتًا طويلًا للحفاظ على علاقاتي مع أشخاص يريدون مني أكثر مما يمكنني تقديمه. في الحقيقة، أنا أحتاج لإلغاء المواعيد بشكل دوري. علي أن أختفي لبضع أيام أو أشهر لأحافظ على كتاباتي. الأصدقاء الذين يستاؤون من هذا الأمر، أو يفسرونه بشكل شخصي عادة ما يغضبون مني. والشعور بالنقص يدفعني للعمل بجهد أكبر لأتمكن من وصالهم. في السنوات القليلة الماضية تعلمت مقدار الارتياح الذي أجنيه من التخلص من هذا الشك. ومن الممكن أن تقومي بهذا بحب. أن تكوني صديقة جيدة لا يعني التقيد بمفهوم صديقتك عن الصديق الجيد. بل يعني أن تبتكري مفهومك الخاص لما تعنيه الصداقة الجيدة بحقّ، ومن ثم تطبيقه على الأصدقاء الذين يشاركونك نفس الفهم. وهذا التطبيق يتطلب معرفة عملية بـما هي “الحدود”. (الخطوط الحمراء لك والحدّ الذي لا ينبغي للآخرين تجاوزه معك)

7- “لا” ليست “لا”

اِعتادي على “لا”. هذا يتطلب تغيير علاقتك بـ”لا”. لست تقولين “لا” لحدث يمكنك من تشبيك علاقات مهمة، أنت تقولين نعم لعملك. أنت تقولين نعم للنوم الذي تحتاجينه من أجل عمل جيد. أنت تقولين نعم لعلاقاتك الحقيقية التي تمتلكينها بالفعل وتحتاجين تقويتها والاستمتاع بها كي تكوني قوية أمام مصاعب الحياة والكتابة. لست تقولين لا لفرصة، أن تقولين نعم للثورة. لست تقولين لا للشخص الذي قد يخيب ظنه فيك، أنت تقولين نعم لحياة متحررة من خوف خيبات آمال الآخرين.

ينصح الكاتب والشاعر الألماني ريلكه في كتاب “رسائل إلى شاعر شاب”، بأن يسأل الشاعر نفسه “هل سأموت لو حُرّمت عليّ الكتابة؟”. سؤال دراماتيكي! لكنه صحيح. إذا كان جوابك للسؤال المهم “هل الكتابة حتمٌ مقضيّ عليّ؟” هو “نعم، هي كذلك” فعليك ألا تموتي خوفًا من توقعات الآخرين. لا تموتي بسبب رسائل إلكترونية. عيشي وكأنه لا تهمك قساوتك. وفي الحقيقة، لا أظن أنك ستهتمين في فراش الموت برأي الآخرين حول قساوتك، بل ستهتمين إن كانوا قد وجدوا في كتاباتك الحب والأمل أو لمسوا تجليات للجوانب المسكوت عنها في ذات الإنسان.

لا تترددي في مراسلتي إن إحتجت لتذكيرك بذلك، لكن لا تتوقعي ردًا سريعًا، أو أي رد على الإطلاق.


تُرجمت هذه القطعة من المحتوى بإذن كاتبتها الأصلية: ميليسا فيبوس.

ترجمها للعربية: مصطفى بوشن.

نُشرت لأول مرة بالعربية في مدونة يونس بن عمارة.

ساهم في استمرارية توطين المعرفة ونشر العلم باللغة العربية. اِشتر نسخة أو أكثر من رواية إيفيانا بسكال.


حقوق الصورة البارزة: Photo by Lukas Blazek on Unsplash

3 رأي حول “هل تُفضِّل أن تُعرف بأسلوبك في الكتابة أم بردودك السريعة على الرسائل؟

شاركني أفكارك!