(وجهة نظر): من الأخلاقيّ تمامًا أن تنجب أطفالًا في هذا العالم الـ*رائي

على سبيل التقديم:

يمكن عدّ هذا المقال المُترجم مواصلة للجهد الذي أبذله في التفكيك العقلاني لاتجاه “عدم الإنجاب” الذي بدأ ينتشر أكثر فأكثر، فالمقال الأول لي كان: ثلاثة حُججٍ عقليّة ضد فكرة (اللا تناسل)، أتبعته بمقال آخر وضحت فيه كثير من الأمور عنوانه: ما الداعي للاستمرار في الحياة؟ (حجة تدعم الإنجاب) وفوق كل ذلك، حدّثت المقالات إذ ليست هي مقالات قديمة فحسب، بل منقحة ومضاف إليها ما استجد، والهدف من ذلك على المدى البعيد بحول الله وقوته لا حولي ولا قوتي، تأليف كتاب شامل عن الموضوع.

المقال المُترجم: الرابط الأصلي.

إن تقليل عدد البشر في المستقبل ليسَ وسيلة ناجعة للتغلب على التغيّر المناخي.

توم وايمان (كاتب وفيلسوف من المملكة المتحدة)

إنه لأمر منطقيّ ومعقول ومن الخير، كما نسمعُ الأصوات تتعالى هذه الفترة، ألا ننجب أطفالًا. من ذاك إعلان الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، دوقة ساسكس، بسماحة منهما وكرمٍ (!) أنهما سيقتصران على طفلين فقط، بهدف تقليل البصمة الكربونية (مجموع ما يتسبب فيه المرء من إنبعاثات كربونية تضرّ البيئة) التي تصدرها العائلة الملكية. في حالتهم يبدو هذا القرار منطقيًا ومعقولًا للغاية، ذاك أن فاتورة البصمة الكربونية لفردٍ (آخر) محتمل وثريّ جدًا من العائلة الملكية البريطانية،ستكون مرتفعة جدًا إذ سيولد وفي فمه ملعقة من الذهب ويمرح في المساحات الشاسعة للقصور وينتقل عبر الطائرات الخاصة. لكن حتى من جهتنا أيضًا، نحنُ العامّة البسطاء ملزمون أخلاقيًا بالتفكير في مآلات هذا التصرّف (إنجاب أطفال لهذا العالم). بهذا الصدد، كشفت دراسة نُشرت العام 2017، من بين عدة دراسات أخرى، أن أعظم تصرّف يمكن للمرء أن يفعله لتقليص (فاتورة) بصمته الكربونية هو أن ينجب عدد أطفال أقلّ لهذا العالَم.

لا جَرَم إذًا أن نرى فلاسفة الأخلاق يتبنون هذا الاقتراح ويدعون إليه. من ناحية أخرى، وفي وقت سابق من هذا العام، تضمن عدد خاص من مجلة “محاولات فلسفية” (Essays in Philosophy) تمحور حول موضوع أخلاقيات الإنجاب، عدة مقالات تقول بأنه يقع علينا واجبٌ أخلاقيّ بأن نقلص عدد أفراد أسرتنا لمواجهة التغيّر المناخي؛ بل تمادى بعضها وذهب حتى الاقتراح بأن الفرد القادر ماديًا على رعاية طفل يقع عليه واجب أخلاقي مُلزِم بإجهاضه.

إذا كانت هذه الدعوة صحيحة فعلاً، فلربما أنا وحشٌ من وجهة نظر أخلاقية، ذاك أنني أصبحتُ أبًا منذ شهر ونيّف فقط. إنني لا شك أحبّ ولدي، لكني أتساءل هل صحيح أن البشريّة ستكون أفضل بالفعل لو لم يخرج هذا الطفل من حيّز العدم إلى دائرة الوجود؟ وماذا عن ابني نفسه؟ إن المشكلة التي ينبغي علينا أن نواجهها كبشر (وألا نتهرّب من ذلك) لا تتمثل في أن مجرد وجود هذا الطفل في هذا العالَم يجعل العالَم أسوأ. بل تتمثل في أن الطفل الذي يوجد في هذا العالَم يجعله أسوأ لأن الطُرق التي سيجبره العالَم على العيش وفقها تجعله أسوأ. من له أخلاق تسمح له بفعل هذا لبشريّ آخر؟ أي إجباره على العيش وفق أساليب تضرّ الكوكب؟ من تسمح له أخلاقه بإنجاب بشريّ آخر يحبه، ثم إجباره على العيش بطرق لا تؤدي إلا لحدوث نهاية العالم (أو إن خففنا وطأة التمركز حول الإنسان، سنقول: نهاية الحضارة الإنسانية كما نعرفها الآن)؟

كيف لنا أن نقيس بدقة الانبعاثات الكربونية التي ستطلقها الأجيال القادمة؟
في حال كنتُ وحشًا من وجهة نظر فلاسفة الأخلاق، فمن المفترض أن الأبطال في هذه القصة هم أعضاء حركة “المُضربين عن الإنجاب” (BirthStrikers). تأسست حركة “المُضربين عن الإنجاب” أواخر العام 2018، على يد الناشطة في شؤون المناخ المقيمة في لندن، والموسيقية أيضًا: بليث پيپينو، وهي تدعو أعضائها (الذين يصل عددهم لنحو 140 شخصًا حتى هذا العام) أن يعلنوا عن قرارهم “بعدم إنجاب أي أطفالٍ نظرًا لحدّة الأزمة البيئية التي نشهدها في الوقت الراهن، والتقاعس الحالي الذي تبديه القوى الحاكمة الآن في مواجهة هذا الخطر الوجودي الوشيك” من وجهة نظر پيپينو، لا يتمثل مغزى حركة “المُضربين عن الإنجاب” في “تثبيط الناس عن إنجاب الأطفال، أو إدانة من أنجبوا أطفالًا بالفعل، بل يتمثل المغزى في إيصال فكرة ‘الوضع الاستعجالي للغاية’ الذي تتسم به هذه الأزمة”. من هذا المنطلق، تعتبر نشاطات الحركة “إقرارًا راديكاليّ الطابع” بأن الكارثة المناخية اللائحة في الأفق تعني حاجتنا الماسّة لأن “‘نغيّر تمامًا الطريقة التي نتصوّر بها مستقبلنا”. وهذا ما تزعم پيپينو أنه “بصورة ما: نشاطٌ مفعم للغاية بالأملِ. ذاك أننا لا نكتفي باتخاذ هذا القرار، ثم نحتفظ به لأنفسنا، ونتركه جانبًا. بل نبذل ما في وسعنا لإعلانه أمام الملأ بصورة تُضفي عليه طابعًا سياسيًا، على أمل أن تتاح لنا فرصة لتغيير الآراء والأفكار”.

هكذا لا يُمثل قرار عدم الإنجاب، بالنسبة لپيپينو وزملائها في حركة “المُضربين عن الإنجاب”، مجرد قرار من طرف واحدٍ ذو أثر طيب وحسب، بل يعد كذلك فعلاً من “أفعال المقاومة”. ومع أني قرأت وتابعت لها العديد من المقابلات التي أجريت معها، إلا أنني لا زلتُ غير متأكد تمامًا مما تعنيه پيپينو بكلمة “إضراب”، وما إن كانت تريد لنا أن نفهمها حرفيًا كما يتبادر للذهن عندما نقول “إضراب عن الطعام” مثلًا. هل تقصد پيپينو الانسحاب من عمل “الحَبَل”، بغرض فرض ضغطٍ على القوى الحاكمة حاليًا، بهدف إجبارهم على الامتثال لمطالب الحركة البيئية؟ ظاهريًا، من المعقول جدًا أن يكون هذا هو مقصدها. ذاك أن السياسيين، لا سيما المائلون جهة اليمين منهم، يريدون بشدة أن تنجب النساءُ المزيد من الأطفال، طالما كان هؤلاء الأطفال من البِيْض المنتمين للطبقة المتوسطة. هذا ما يقشع عنا الضباب لفهم سبب رغبتهم العنيدة في فرض القيود على الإجهاض؛ ويفسّر لنا أيضًا لماذا يقدّم الحزب اليميني المُتشدِّد الحاكم في بولندا: حزب القانون والعدالة إعانات مالية سخيّة لإنجاب الأطفال كتحفيزٍ للأمهات كي يُنجبن المزيد منهم/ـن.

هكذا ندرك إذًا، أن حركة “المُضربين عن الإنجاب”، من إحدى جوانبها، رفضٌ لما سماه المُنظّر الكويري (queer theorist) لي إدلمان في كتابه الصادر عام 2004 المعنون ‘ما من مستقبلٍ’ بـ”المستقبلية التكاثرية”: التي تتمثل في أيديولوجيا تتخذ من صورة “الطفل” على أنها “المُستفيد ‘المُتوهَّم’ لكلّ تدخّل سياسيّ يتم إجراؤه”؛ أو ما يريد أولئك النسوة اللائي يشبهن شخصية هيلين لوڤجوي (من مسلسل ذا سيمبسون) من هذا العالم: أن يأخذ “بحقّ السماء أحدهم الأطفال بالحسبان”. وفقًا لإدلمان، تفرض المستقبلية التكاثرية “سقفًا أيديولوجيًا” على الخطاب السياسي، إذ تحتفظ هذه الأيديولوجيا بـ”الامتياز المُطلق للتوجه الجنسي الطبيعي (الذي ينصّ على أن انقسام المجتمع لنساء ورجال هو الأصل وباقي التوجهات ليست كذلك)” الذي يجعل أي تدخل سياسي لا يصبّ (وإن بشكل ما) في مصلحة الأطفال أمرٌ غير مقبول البتة أخلاقيًا. هكذا تصبح “المستقبلية التكاثرية” (التوجه الفكري بالدعوة للإنجاب) وسيلة لتأديب الناس عمومًا، ناهيك عن كونها تستند على أفكارٍ لا تتقبل التوجهات الجنسية الأخرى. بهذا الصدد، يكتب إدلمان “أنه يمكننا رؤية الفاشية تلوح على وجوه الرُضّع”.

في إحدى صفحات الكتاب، يربط إدلمان رؤيته لإعلان مناهض للإجهاض بالاعتقاد بأن هذا الإعلان صِيغ لاستهدافه هو، حيث أنه رجلٌ مثليّ الجنس. “إذ كانت اللافتة الإعلانية، على أية حال، وبوضوح كامل، وتحت ظل نفس السلطة المطلقة اللامرئية التي تعد علامةً دالّة على العمل المُنجز بنجاح للتجنيس الأيديولوجي، تنصّ على الأمر التوراتي “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ” ويتابع إدلمان ساخطًا “سحقًا للنظام الاجتماعي، والطفل الذي مارسوا باسمه إرهابًا جماعيًا علينا؛ وتبًا أيضًا لآنّي؛ وسحقًا لذاك اللقيط في قصة البؤساء؛ وتبًا لذاك الطفل المهضوم البرئ على الشابكة.. ألا فسحقًا لكل شبكة العلاقات الرمزية والمستقبل الذي تقوم عليه”.

مع ذلك تفتقر حجة إدلمان إلى عنصر غاية في الأهمية. وهو كما صاغته ماغي نيلسون عندما ناقشت أفكار إدلمان في مذكراتها المتمحورة حول “الوالديَّة الكويرية”، المعنونة بـ”الأَرغُونُوتس” (أَرغُونُوت: أحدُ الذين أبحروا مع جاسُون على السفينة أرجو بحثًا عن جِزّةٍ ذهبيّة في الأساطيرِ اليونانيّةِ، لقب يطلق مجازًا أيضًا على المغامرين) “لماذا نزعج أنفسنا بصبّ اللعنات على الطفل، فيما نستطيعُ صبّها على تلك القوى المتسلطة التي تستغل اسمه وتختبئ وراء صورته؟”. وفي إحدى صفحات كتاب “ما من مستقبلٍ”، يستشهد إدلمان ببرنارد لاو، الكاردينال السابق المقيم في بوسطن، الذي عارض العام 1996 تشريعًا يقضي بمنح إعانات الرعاية الصحية للشركاء مثليي الجنس من موظفي الحكومة:

“عارض الكاردينال هذا القرار بالزعم.. أن السماح بوصول أولئك إلى مزايا الرعاية الصحية سيؤثر بشدة سلبًا على الرابطة الزوجية (الطبيعية). إذ يرى الكاردينال أن ‘المجتمع’ له ‘مصلحة لا يُعلى عليها لحماية الأطفال ورعايتهم وتنشئتهم. ولأن الزواج يظل الإطار الأساسي، والأفضل لرعاية الأطفال وتعليمهم وتنشئتهم اجتماعيًا، للدولة مصلحة واهتمام خاصّ بالزواج'”.
لكن بعد سبع سنوات، أُجبر لاو على الاستقالة لفشله في حماية الأطفال الكاثوليك من القساوسة البيدوفيليين. ما من شك أن لاو منافق متزمت وشخص مريع؛ لكن إدلمان لم يخلص إلى هذه النتيجة التي تبدو الاستنتاج الأكثر بداهة من هذه القصة، المتمثل في أن الرجال ذوي السلطة والنفوذ مثل لاو، والمؤسسات التي يمثلونها، ليس لها أي اهتمام حقيقي برفاه الأطفال البتة؛ بل كل ما يهمهم استغلال “الطفل” كواجهة لمساعيهم ومآربهم.

إن النظام الاجتماعي السائد لا يريد الأطفال إلا بقدر ما يتعلق الأمر بإرث ذاك النظام؛ أي ما يريده النظام وهو ضمان استمرارية الأمور على ما هي عليه، ومن ثم استمرارية ذاك النظام. ولهذا لا أرى أن فعل “المقاومة” الذي يبذله “المُضربون عن الإنجاب” ويدعون إليه أمر منطقي حقًا، لمواجهة الكارثة المناخية، ذاك أن وجود عدد كبير من الأطفال يُمثل، في واقع الأمر، تهديدًا للسيطرة الرأسمالية العالمية الحالية أكثر مما يهددها نقص عددهم.

مع أن الغرض الأول الذي يفي به البشر الجدد القادمون، هو استمرارية النوع الإنساني، إلا أنهم يعملون أيضًا على ‘تحويل’ النظام الحاليّ للأمور داخل العالَم.

بهذا الصدد، تستخدم حنّة أرندت كلمة “ولادة” (natality) للإشارة إلى “البداية الجديدة المتأصلة جوهريًا في حدث الولادة”. بالنسبة لأرندت، تسهم الولادة في تحديد معالم جميع جوانب الحياة الإنسانية. “ندرك هنا أن العمل اليدوي، والعمل الوظيفي (المكتبي)، بصفتهما أفعالًا بشرية، متأصلان بعمق في الولادة بقدر ما تتمثل مهمتهما في توفير ما يلزم للعالم والحفاظ عليه، وذاك بتوقع وتوفير ما يلزم للتدفق المستمر للقادمين الجدد الداخلين للعالم من خلال الولادة كغرباء”. وهذا ما يختلف عما يريد اليمين السياسي استخراجه من توجه “المستقبلية التكاثرية”، ذاك أن مهمة “الحفاظ” على العالم، كما تفهمها أرندت لا تحيد قيد أنملة عن الطابع التحويلي الذي يتسم به “التيار المتدفق” من الأطفال الجُدد. إن ولادة بشر جدد يهدد الحالة الراهنة للأمور، ومن البديهي أن تُفضل الرأسمالية الإنكارية التي لا تود فعل شيء إزاء التغير المناخي، أن يصبح كل شيء هباءً منثورًا على أن تخضع لإملاءات من يريد فعل شيء إزاء الكوارث البيئية: وهو ما تمثله بفنيّة لوحة “ساتُرن يلتهم أطفاله” (لوحة فنية رسمها غويا تمثل ساترن -أحد الآلهة وفق الأساطير- وهو يلتهم أطفاله خوفًا من أن يقضوا على سلطته لما يكبرون- للاستزادة طالع هنا http://bit.ly/2mcIoWv)

من ناحية أخرى، لا زالت ديمقراطيات العالم المتقدم ممثلة إلى حد كبير بمن ولد في حقبة ‘انفجار المواليد’ (ازدياد في عدد الأطفال المواليد في مدة من الزمان ولا سيما بين سنة 1946 وسنة 1964) مما منح الناس الذين تتراوح أعمارهم الآن ما بين الستين والسبعين وحتى الثمانين عامًا ثقلًا سكانيًا كبيرًا. وفي ظل عالم يزداد تشتته يومًا إثر آخر، يُشجع فيه الناس على تفضيل مصالحهم الشخصية على المصالح العامة بشأن ما يحدث مثل التغيّر المناخي، يتبين لنا المنطق وراء لماذا، من وجهة نظر انتخابية، يساند السياسيون اتجاهات التدمير والموت، ضد اتجاهات الحياة والازدهار.

إذًا ينبغي ليصبح العالم مكانًا أفضل، أن يزداد عدد الأشخاص ذوي الاهتمام الفعّال بتغيير الحالة الراهنة للأمور، ينبغي إذًا أن يزداد عدد أولئك الأشخاص الذين لا يملكون رفاهية أن يتمرغوا بأنانية في رحاب العدمية أو التلذذ بمباهج الرضا عمّا هو موجود. بهذا الصدد، توفر لنا “إضرابات الشباب بشأن التغير المناخي”، التي أطلقتها غريتا ثونبرغ، صورة عما يمكن للتدفق الجديد للبشر (الحاملين لهمّ التغيير) أن يقوموا به، على الرغم من أن هذه الأفعال في حاجة لأن تحدث بوتيرة أكثر؛ وبصورة أشمل، وطابع أكثر راديكالية.

إننا إن اعتبرنا الطفل مجرد وحدة بشرية مُستهلِكة، ليست إلا رقمًا ضمن أرقام ما تتضمنه فاتورة البصمة الكربونية لأبويه، تمامًا مثلما يخلّف أبواه الكربون عندما يتناولون شريحة لحم أو يحجزون تذكرة رحلة جوية، يصبح حقًا أن نعتبر إنجابهم عملاً غير صالح؛ وأن نعد وجودهم غالب الأحيان إسرافًا لا أخلاقيًا، يثقل كاهل الكوكب بعبء هو في أشدّ الغنى عنه. لكن النظر إلى الحياة البشرية على أنها مجرد “وحدة مُستهلِكة” طريقة بالغة الغرابة في التفكير. لأنه ومع أن الغرض الأول الذي يفي به البشر الجدد القادمون، هو استمرارية النوع الإنساني، إلا أنهم يعملون أيضًا على ‘تحويل’ النظام الحاليّ للأمور داخل العالَم.

بهذا الصدد، وفي دراسة العام 2017 التي أشرت لها سابقًا، حُسبت البصمة الكربونية لكل مولود جديد بـ”جمع إجمالي الانبعاثات التي سيخلفها الطفل وكافة أحفاده (من نسله)، ثم تقسيم المجموع الإجمالي على مدة عمر الوالد. هكذا نُسب إلى كل والد 50 بالمئة من الانبعاثات التي يخلفها أطفاله، و25 بالمئة من الانبعاثات التي يخلفها أحفاده، وهلمَّ جرًّا”. لكن كيف لنا أن نقيس بدقة الانبعاثات الكربونية التي ستطلقها الأجيال القادمة؟ من الوارد أن نكون نحن البشر فظيعين؛ لكن لماذا علينا الافتراض بأن فظاعتنا لا مناص منها، ولا شفاء لها، ولماذا علينا الأمل بأن يكون أحفادنا بنفس القدر من الفظاعة لا أكثر منها؟ أليس هناك احتمالٌ أن يكونوا أفضل منا… مثلًا؟ (هل نحن مُلزمون جميعًا بأن نخلص إلى نفس النتيجة التي خلُص إليها جوناثان فرانزن، الذي صرّح في مقال نشرته “ذا نيويوركر” بأنّ اليأس من التصدي للكارثة المناخية ليس أمرًا سيئًا؟)

وإتمامًا لحجة “الولادة” كفعل للمقاومة، لا أدعو هنا إلى أن يكون “التناسل” إلزاميًا؛ لأن هناك ما يكفي من الأسباب ويزيد، التي تجعل المرء يفكر بأنه ليس أهلاً لأن يكون أبًا، أو أمًا، سواءً في فترة زمنية محددة، أو طيلة حياته؛ هناك أيضًا الكثير من الأسباب التي تجعل المرء يفضل تبني طفلٍ على إنجاب واحد بنفسه. حرّي بالذكر هنا أن الترتيبات غير التقليدية للعائلة تعدّ منهجًا جديرًا بالتأمّل والمحاولة؛ ففي العدد الخاصّ من مجلة “محاولات فلسفية” آنف الذكر، تقول إحدى أوراقه البحثية بأن تنشئة الأطفال من قبل أكثر من أب وأم (أي وفق نظام تعدد الآباء) ينشئ الأطفال على نحو أكثر استدامة، بل ومن الوارد أيضًا أن يترعرع أولئك الأطفال ليكونوا أكثر انفتاحًا على المجتمع ويصبحون أفرادًا بالغين أكثرَ وعيًا. من ناحية أخرى، يعد العُقم، مصدرًا فظيعًا للآلام: والمرء المصاب به ليس في حاجة إلى أي حجة فلسفية تعزّيه…بل أن حجج الفلسفة لمواساته قد تجعله يشعرُ بألم أشدّ…

إن الأهم من إنجاب الأطفال هو الوقوف بجانبهم، ببذل أقصى ما في وسعنا لمساندتهم، بدل الانغماس في مشاعر اليأس من وجودهم. ذاك أنه من خلال مفهوم “البداية الجديدة”، المتأصلة والملازمة لكل حياة جديدة تأتي لهذا العالم، بإمكاننا مقاومة الاتجاه العام للمجتمع الذي يمضي نحو جعل الحياة أسوأ وأكثر معاناة، والمُفضية بنهاية المطاف، إلى الفناء. أن تكونَ أبًا أو أن تكوني أمًا -أيًا ما كان ذاك يعني، أو سيعني، أو سيصبح معناه- يعدّ مقامرة: يراهن فيها المرء على نفسه، وعلى العالَم أيضًا، وعلى طفله هو كذلك. لكن ونظرًا للحالة الراهنة للأمور، يبدو هذا الرهان ضروريًا إن أردنا الأمل بتغيير عالمنا نحو الأفضل.

12 رأي حول “(وجهة نظر): من الأخلاقيّ تمامًا أن تنجب أطفالًا في هذا العالم الـ*رائي

  1. مرحباً أخي يونس، كل مشاهداتي الواقعية للاإنجابيين كانت دوافعهم اقتصادية بحتة، كنت استنكر ذلك عليهم سابقاً لكن بصراحة صرت اتفهم توجههم مؤخراً خصوصاً مع الضغوطات الحياتية التي تزداد يوما بعد يوم ومهما خطبت في احدهم بان الرازق هو الله وأنه (يرزقهم وإياكم) و( يرزقكم وإياهم) قد يبدي اقتناعاً عميقاً بين يديك لكن هذا الصرح الايماني سينهار مع أول عبوة حفاضات يحتاجها المولود، لذا صرت اتقبل تحديد عدد الاولاد- الاكتفاء باثنين مثلاً- بصدر رحب خصوصاً وان المسوغ الشرعي موجود، اما هذه الدعوات ومن يدعون لها و دوافعهم فاراها مجرد مشاغبات فكرية او فلسفية غير ذات أثر لأسباب عديدة منها ما ذكرتَها في هذا المقال وغيره أقواها برأيي تصادمها مع غريزة الامومة والابوة واستحالة تطبيقها ايضاً.

    Liked by 1 person

    1. أهلا أستاذ حماد شكراً لتعليقك. لكن تحديد عدد الأطفال يختلف عن الدعوة لعدم الإنجاب مطلقاً ونحن لا نختلف مع الأول إن كان الأبوان واعيان ونختلف مع الثاني لأنه دعم لتوحش الراسمالية

      إعجاب

      1. ما المعيار الذي تفصل على أساسه بين “اللاانجابي” وغيره؟ هل الدافع ام نقطة التوقف-اقصد ان يتوقف عن الانجاب ابتداءً او بعد الطفل الاول او الثاني…-
        ذكرتُ الامتناع عن الانجاب بعد الطفل الثاني لان هذا ما عايشته عن قرب لكن قد يمتنع احدهم عن الانجاب نهائياً بدافع اقتصادي ايضاً بحجة ان هذا الطفل الاول هو عبء مادي لا يطيقه، هل في هذه الحالة ليست لديك مشكلة مع هذا التوجه؟ وماذا لو خرج غيره لينظّر لهذا الامر ويدعوا الآخرين ايضاً لتطبيق هذا؟

        إعجاب

  2. ما المعيار الذي تفصل على أساسه بين “اللاانجابي” وغيره؟ هل الدافع ام نقطة التوقف-اقصد ان يتوقف عن الانجاب ابتداءً او بعد الطفل الاول او الثاني…-
    ذكرتُ الامتناع عن الانجاب بعد الطفل الثاني لان هذا ما عايشته عن قرب لكن قد يمتنع احدهم عن الانجاب نهائياً بدافع اقتصادي ايضاً بحجة ان هذا الطفل الاول هو عبء مادي لا يطيقه، هل في هذه الحالة ليست لديك مشكلة مع هذا التوجه؟ وماذا لو خرج غيره لينظّر لهذا الامر ويدعوا الآخرين ايضاً لتطبيق هذا؟

    Liked by 1 person

    1. المعيار أن الأول لا إنجابي يرى الإنجاب ذاته استمرار في العبثية ومضرّ بالبيئة في أقل الأحوال وكما قرأت أعلاه هو يحسب أيضا نسل الطفل الذي سينجب فيعده سلالة إنسانية حتى لو كان أولها خيرًا إلا أن ضمان خيريتها المستمرة مستحيل ولذلك يقولك لنتوقف عن الشر بسد بابه مجيئه أصلا. وهي وجهة نظر غير معقولة منطقيا ولا مقبولة اخلاقيا. أما الثاني الذي يتحدث عن القدرة المادية على رعاية الأطفال إن وفرنا له الجو فسيغير رأيه يعني لو وفرنا له مهنة ودخل جيد وبلاد جيدة قد ينجب اكثر المدهش ان الاحصاءات تقول العكس فكل ما تحسنت البلاد نقصت الخصوبة. وهذا جانب جدير بالدراسة فلسفيًا.

      إعجاب

      1. بخصوص تحديد النسل -لا أعد بشيء- لكن ليس محور اهتمامي حاليًا. لأن بؤرة التركيز حاليا هي اللا إنجابية. أما تحديد النسل أيًا كان الداعي فلربما إن أتيح لي الوقت بإذن الله أخصه ببعض الاهتمام.

        إعجاب

شاركني أفكارك!